أعلنُ انشقاقي.. وهذي هويتي

23 ابريل 2015
+ الخط -

قالها عسكري بدا شاباً أكثر مما يجب وبلغةٍ عربية فصيحةٍ: "أعلن انشقاقي وهذي هويتي" ثمَّ حذا حذوه آخرون بنفس اللغة وبلكنات مختلفة، لم تُظهر الجملة المشحونة بالألم والأمل ما يوحي بأنَّ هذا الفعل (الأخلاقي) انغمار في اللمعة الإعلامية التي تخلفها عادة هذه الخروجات عن سائد، ترسّخ كما لو أنه الحقيقة المطلقة أو البديهة التي لا تقبل مماحكة. الواضح أنَّ المنشقّ هذا، استدعى قوة أخلاقية والتزاماً مشغولاً عليه، حرّكتاه، إذ لم تكن هناك مساحة منجزة وظاهرة لتتقبل أو تستقبل هذا الخروج الحلو والمر في آن واحد، بل والموسوم بالدم وليس سواه، ففي الوقت الذي تكون فيه فقد قطعة السلاح خيانة، ومعصية أمر القائد المباشر هي سبّ وتحقير للرئيس (القائد العام للجيش والقوات المسلحة)، صار من الملحّ التفكرّ أو تخيل مصير ضياع أحد (حماة الوطن) وحامي (الشعارات) ومرسخ (الأمن والأمان) وموطّد أركان (الدولة الوطنية)، ربما هذا الخروج المحفوف بالقتل إعداماً، يلخص حجم الدمار الذي يشيعه زبانية السلطة من سدة الهرم إلى أسفله، بحيث يجدّ العسكري أو المدني البدّ الوحيد، في تجنيب أهله بندقيته والظفر بالراحة التي يوفرها الشعور المطمئِن بألا يكون قاتلاً أو أداةً في يد القاتل، فيعلن ما يشبه الموت.

ذهب بعض السوريين ومنهم المثقف الذي حرص على شعرة معاوية بينه وبين السلطة المزوّرة لمفهوم الدولة والمواطنة، بذمّ الحراك السلمي وعدّه خروجاً عن النظام على النظام والقانون، متماهين تماماً مع مقولة "المؤامرة الكونية" وصار العلماني منهم والإسلامي على حد سواء يأخذ بطاعة الحاكم وتقوية بطانته في وجه "الهجمة القادمة من أعالي البحار" ضدّ بلد ديدنه (التطوير والتحديث)، وذهب آخرون إلى الرضى بالأقل والدعوة إلى لجم الأحلام والطموحات والحاجة في تعددية سياسية ودولة عادلة تربط بين الحرية والأمان، وتؤسس لعقد اجتماعي متوازن، يقوّض هيمنة السلطات وتداخلها، ويفتحُ كوة الحرية في القول والفعل والبناء. كان هذا دخولاً سيئاً على معتقد الجمهور الذي اختار الشارع، ولم يختر البندقية، سلاحه كلمته/ شعاراته المصاغة بعضها بعفوية وبعضها الآخر بدرايةٍ تؤسس للأحسن، يقول إي إتش كومبريش "في عالم المنطق، يمكنك أن تستخدم الحجج لتقنع الآخرين بصحة آرائك، ولكن حين يتعلق الأمر بمعتقداتهم، لأنها تخرج عن نطاق البرهان العقلي، فيجب أن يتم التعامل معها باحترام وتسامح"، هنا المكان عالم المنطق، ليس العالم الذي يقول فيه رئيسه عنه: "جراثيم".

بالجملة تلك أعلن انشقاقي.. وهذه هويتي، بالانتصارات الأولى غير المفكّر بها، صارت خمسة عقود من نهش قلب السوري وعقله ومحاولات تدجينه، لا ليكون جزءاً من القطيع وإنما القطيع ذاته بذله وتبعيته وعطالته، صارت الخمسة عقود محكوماً عليها بالموت، فالذي هتف للحرية علناً، وقال (لا) وصفق للحقيقة، لا يمكنه ثانيةً أن يعودَ إلى خانة ترشيح الرئيس، ليبصم بالدم (نعم)، مفردة تتجاوز دلالة وقعها على الأذن، لتكون وقراً لزجاً ومقززاً.

صنع السوري مدنيته بنفسه، ظهر كرجل حضارة وهو ابن لها، فالمؤسسات الوهم والدولة الزائفة لم تؤلف بين قلوب الناس، وجاهدت بقوتها وبطشها لتزرع الأمراض طائفيا ومناطقيا وفشلت، ولم يكن غريباً أن تتنبه المظاهرة لذلك، فكان الهايكو الشهير "الشعب يريد إسقاط النظام" يرافقه على قدم المساواة "واحد.. واحد/ الشعب السوري واحد" شقَّ المضطهدُ والمعذّب والمستلب عصا الطاعة، ليمنح الثورة اسمها العظيم، فثورة في سورية تعني اختراقاً للمستحيل، وتعني أن هذا الإنسان الذي صبر طويلا طويلاً لا يتجهُ لأن يوسم فعله النبيل بصوت السلاح ومرأى الدم، وإن ما جاء بعد، لم يكن خيارا، بقدر ما كان قدرا. قتل النظام المتظاهر، ليقول في البدء أن مندسين فعلوها، ومن ثمّ إرهابيين، ووصل الأمر بـ (الرئيس) الذي عدَّل الدستور في ربع ساعة ليناسبه للقول: "يوجد الملايين من الإرهابيين السوريين".

تآخت المدن السورية في الجرح والخراب والآمال، كانت عامودا في شمال شرق سورية بكردها التواقين إلى الحرية وأصحاب الإرث الجليل في ذلك وكفرنبل في الشمال ترفدان المشهد بالعلامات والدلالات واللافتات، يمكن النظر فيها على أنها تصلح لتكون دستورا لسورية الجديدة، ربما كان هؤلاء لهم رأي آخر غير الذي قاله بسمارك "إن أسئلة التاريخ العظيمة، لا تحسمها الخطب، بل الدم والحديد".

إن الضابط السوري المتماهي مع السلطة ما كان عوناً، بل قاتلاً، ذلك الذي تعودّ أن يمد يده في جيب العسكري، ويقلل من حصته الغذائية، وذلك الذي نظر إلى السوري على أنه حصالة، وكل في موقعه، سمعتُ عن ضابط مخابرات في القامشلي: "نحن لا وجيه عندنا، الكل دون الحذاء، والوجيه بمقاييسنا هو من يمتلك المال والمؤخرة الحلوة"، بهذه العقلية التراتبية مسكَ آل الأسد مزرعتهم وسوّروها بحزام اللا أخلاق واللا سورية، ولهذا نجد ضابطاً يأمر بقلع أظافر أطفال، كتبوا على الجدران، ونجد آخر يأمر بإطلاق النار على عزل فيردي خمسة وأربعين منهم، يتهاوون كعصافير، ثم تعرض قناة لها السبق في الكذب، أنّ هؤلاء كانوا مسلحين، وتضع دوائر على عصي وحجارة بحوزتهم، كانت هذه مقدمات قليلة من أصل مقدمات، لا تسمح حصة الكتابة هنا بعرضها ولو مقاربةً.

الكتابةُ عن العسكرة محفوفة بالمخاطر، إذ لا يمكن الإلمام بمفاصل كل ما يحدث اليوم من تشتت وتجاور للرايات، تبعاً للجهة الممولة أو الجهة المانعة، وهو ما حدث من دون أدنى شك مع الجيش الحر، وتقويضه لصالح تيارات وقوى آخرى، وهو ما يمكن رده إلى العالم بإدارته للأزمة وليس محاولته حلها، وربما لن نغالي إذا قلنا أن كلمة لعصام العطار قد تلخصُ استهانة العالم بهذا النزيف المستمر منذ أكثر من أربع سنين وما زال "لو كان للدول العظمى من قوة الأخلاق ما لها من قوة السلاح لكان العالم بألف خير".


(سورية)

المساهمون