أعطني حجابي.. أطلق يدي

14 مايو 2015
+ الخط -
جرّتني السجانة كوثر من يدي متوجهة بي نحو غرفة المخصوص "الإعدام"، حيث كانت تجلس بالخارج إحدى السجانات الموكول إليهن مفاتيح غرف الحبس الانفرادي. ظلت تحملق لي بنظرة فضول وتفحصتني قائلة: "هو انتي عملتي إيه"!

فسارعت بالإجابة نيابة عني زميلتها كوثر "أصلها ردت علي ممدوح بيه رد معجبهوش"، تعالت نيرة صوت الأولى غاضبة من فعلتي "ليه كده يا بنتي، كان لازم يعني تردي".

ابتسامة باردة لا تريد فتح أبواب معاتبة لهن، أراها وقاحة، أن تجد من يتسبب فيك أمام الرجال لإظهار سيطرته هو نفسه من ينافقك بإظهار الشفقة عليك.. لساناً رافضا الخوض بمهاترات كلامية معهن لا قيمة لها، فكيف لي بإقناع من يبرر لرجل ضرب أنثى مهما تعاظمت دوافعه ويسحلها بعصا حتى النزيف.

فتحت كوثر أبواب الزنزانة الحديدية للحبس الانفرادي، لأجد أمامي ممراً ضيقاً يتسع لمرور فردين فقط، يمين الممر يوجد 3 غرف صغيرة، وإلى الشمال "حمام  بلدي" صغير حقير،   رائحته هي العقاب بعينه، أعلى باب الزانزنة من الداخل مروحة مثبتة، لا أثر لها، فالهواء بالداخل له رائحة كريهة، لا منفذ للتهوية، الرطوبة هنا كفيلة بإصابتك بأمراض جلدية لا حصر لها.

بينما أتامل خيوط العنكبوت في جدران السقف، إذا بالسجانه تنتزع غطاء رأسي بقوة، وهي تقرأ على مسمعي قوانين الحبس الانفرادي الذي لا يجيز للأنثى ارتداء الحجاب، أو السماح لها بالخروج لقضاء حاجتها، أو إطعامها، لحين أن تسمح إدارة السجن بإنهاء فترة التأديب الذي قد يتجاوز ثلاثة أيام عزلة جبرية.

أعطتني إشارة بيديها للدخول إلى غرفة الحبس الأولى، حجرة مساحتها تكفي لاستيعاب ثلاثة أشخاص واقفين، الرطوبة من قسوتها تشعرك بالبرودة في أطرافك، ناولتني نصف زجاجة من المياه، وغطاء مهلهلاً رائحته لا تطاق، ملمسه شديد الخشونة، وبعد أن أحكمت الإغلاق وقبل أن تمضي تساءلت بجدية: هاه.. يا سماح عاوزه حاجة قبل ممشي، فأجابتها "لا أريد".

في زاوية الغرفة جلست أسترجع مشاهد الاعتداء، داخلي يتنفس احتراقا محاولاً استجلاب الرضا، الحجرة مظلمة كئيبة إلا من "لمبه" بالخارج، هي أشبة بمقبرة مصغرة لا تعرف فيها مواقيت للصلاة أو اتجاه قبلة، فالتوقيت الزماني هنا منعدم، عصبت رأسي بـ"تي شيرت" أرتديه ووجّهت وجهي لصلاة الظهر، وبأقل من ساعة سمعت صوت باب الزانزنه يفتح، اقتربت من باب زنزانتي فضولا لمعرفة ما يدور بالخارج، فتحت كوثر باب الزنزانة المجاورة وهي تعيد على مسمعي فتاة لم آرها قوانين الحبس، ثم قالت "خشّي.. طبعا هنا ممنوع الأكل..". تتحدث الفتاة ببكاء "أنا معملتش حاجة عشان انضرب وادخل التأديب... وكل ده ليه؟! إحنا عملنا إيه  لكل ده".

رجعت لمكان جلستي في زاوية الغرفة، ولا أخفيكم سراً، لقد كدت أطير فرحا بمعاقبتها، وشعرت بأن الله أراد التهوين على كلتينا، فأنا أجبن ما أكون ليلاً ببيتي. فما بالكم بمكان مقزز كهذا.  

زميلة الحبس الانفرادي هي "آيه عبد الله عكاشة" طالبة في كلية الصيدلة جامعة الأزهر، اعتقلت خلال مشاركتها بمسيرة طلابية  يوم 28 ديسمبر/كانون الأول 2013، آية من الشخصيات التي ابتليت بالعقل، والاحتكام إليه في أوقات قد لا يجوز الاستناد إليه، فتجبرني على الضحك في موقف مأساوي، لا يجوز فيه حتى الابتسام، تصرفاتها العاقلة قد لا تجوز في توقيت مجنون، دخولها التأديب جاء بسبب مناقشتها لرجل الأمن عن حالته الرجولية وهو يضرب زميلتها.

قطعت آيه صفير الصمت في زانزنة الحبس الانفرادي قائلة: سماح العصر إذن.

أنا: معرفش بس بيتهيّألي آه.

آيه: طيب يلا نقوم نصلي.. وبعدين نتكلم للصبح، أصْل أنا بخاف.

فرغنا من صلاة العصر، ومن بعدها الأذكار، صوتها القرآني له رنين تقشعر فروة الرأس منه، راحة قلبية لا توصف، وأنفاس مطمئنة، وكأنها أمامي وهي تتحدث عن ملابسات اعتقالها، ومواقف حياتية عابرة، ثم كسرنا كآبة الحديث عن الانتهاكات، بكلمات تلك الأغنية:

وفجأة أظلمت "اللمبة"، وأصوات بالخارج تردد: النور قطع..

-كلميني يا سماح

-متخافيش يا آيه... أنا خايفة أكثر منك

من فرط الإرهاق غلبني النوم، حتى الفجر، انتفضت مفزوعة كعادتي، على صوتها وهي توقظني، جلست ثواني ليعد ذهني سؤاله المتكرر يوميا وتكتشف عيني المكان، 4 أشهر وعقلي لم يستوعب ما حدث، يسأل بدهشة وكأنها المرة الأولى: هو أنا إيه اللي جبني هنا! فتسترجع الذاكرة نفس القصة وكأنها جزء من أذكار.. أنتي في السجن يا سماح عشان حصل كذا وكذا وكذا.

قبل صلاة الظهر، سمعت صوت رجل بالخارج فأحكمت غطاء رأسي، اقتربت من باب الزنزانة، أنتظر من يفتح لي، فإذا بمأمور السجن، عبد الغفار ومعه السجانة كوثر.

نظر إلي ضاحكاً: إيه اللي انتي عاملاه ده، إشارة منه لحجابي، الذي يشبه حجاب امرأه مطلقة لتوها.

أنا: لحد متدّوني حجاب.

عبد الغفار: انتي حافية، هاتولي شبشب يا جماعة.

أمسكه بيده، وبلا تعال وضعه على الأرض لألبسه وهو يعتذر، ثم أعطى أوامره لكوثر باصطحاب آية إلى الطبيب لمعالجة فمها المتورم من أثر الضرب، وأنا أقف مندهشه أمام المعاملة التي تبدلت وكأني أشاهد برنامج "الكاميرا الخفية".

قرر أن يقتادني بنفسه للعنبر، يشرح لي موقفه الرافض لما تعرضنا له، مبرراً تعاون رجال إدارة السجن مع الحملة الأمنية لضرب الفتيات، بل وأضاف إلى ذلك أن اصطحبني لورش أنشطة المساجين، وهي غرف للمصنوعات النسيجية يتم توظيف المساجين من خلالها، ليعرفني بإنجازات الإدارة، وداخلي يقهقه بهدوء متعجباً من تودده غير المفهوم. أريد الذهاب سريعاً إلى العنبر لفهم ما يدور واستطلاع أخبار باقي المعتقلات.

استقبلتني رفيقات الزنزانة بعد عودتي من الحبس الانفرادي يوم الخميس بعناق وفرحة بالغة شابهت فرحة أم عثرت على ابنها الضائع، أسئلة متبادلة مقتضبة.

 عاملة إيه يا سماح!

كويسة.. فين باقي البنات..

وزعوهم على عنابر الجنائيين.. سماح... إحنا عاملين إضراب

بقولكم إيه... أنا صائمة ومحتاجة آكل، أكّلوني وشرّبوني وبعدين عندي استعداد أدخل معاكم في أي حتة.

صوت أمل مسؤولة النبطشية يستوقفنا: يا سماح اجهزي بسرعة.

باستغراب أسألهن: "لأ.. نقطة نظام كدة، وفهموني في إيه بالضبط، أهلي في قفص الزيارة إزاي وميعاد الزيارة فاضل عليه أسبوع، هما عرفوا باللي حصل!".

أحداهن: روحي الزيارة ولما ترجعي هنحكيلك بالتفصيل.

صراحة، رؤية أهلي كانت الأهم لي من الوقوف على أي تفاصيل، مهما بلغت أهميتها، جذبت طرحة من زميلات المعتقل وحجبت بها رأسي. توجهت نحو باب الزنزانة لتصطحبني السجانة بالخارج لإتمام إجراءات الزيارة بالختم على يدي بشعار الداخلية، ثم تفتشني ذاتيا.

أمام القفص انتشر رجال إدارة السجن في استنفار أمني مهيب، لم يكن في القفص سوى معتقلة واحدة تدعى شيماء أحمد، بمجرد فتح باب القفص ارتمت في حضني، وببكاء منهمر يقابله ذهول تحاول إيجاز ما تعرضت له من توبيخ لفظي وإهانة، كنت أحاول تهدئتها فقط وهي تروي بلا توقف بوجه شاحب، دخلت أختها ووجهها مظلل بابتسامة، لتخبرها بأن تامر بيه مفتش المباحث في السجن وعدها في مكتبه بأنه سيسارع في استخراج زيارة لأبيه بالمستشفى حيث بترت ساقه، طالبا أن يرى ابنته قبل أن يودع الحياة عقب تدهور حالتة الصحية والنفسية.

انفجرت شيماء في وجه شقيقتها وهي تصرخ: بيكذبوا عليكي يا نجلاء. انتي مصدقة كلامهم، إمشي... امشي وخدي معاكي الأكل ده، أنا ولا هاكل ولا هشرب، الموت أهون من الذل ده.. نظرات أختها كفيلة بأن تلخص مدى القهر الذي تعانيه أسرة بسيطة، تتفتن الابتلاءات في تمحيص قوة صبرها على الشدائد، تنهض الأخت وبقسوة تتحدث إليها وهي تمسك بذراعها "انتي مش مقدرة إحنا بنتعب أد إيه! انتي عارفة أنا بتحايل ازاي عليهم هنا عشان أجيب تصريح لزيارة لأبوكي. انتي مش حاسة بالنار اللي احنا عايشين فيها، الزيارة دي انتي متعرفيش جات ازاي".

لم تهتز شيماء لكلماتها التي أوقفت شعر رأسي، وتركتها منادية على السجانه لإعلان انتهاء الزيارة، وقبل أن تغادر القفص بهدوء قالت لها "متنسيش تاخدي معاكي الزيارة، أنا مضربة لحد مرجع العنبر بتاعي".

أخرجتها السجانة، وأدخلت فتاتين من بنات العنبر الأزهري، دخلتا القفص وجلستا في زاوية وظلتا تبكيان، وتتبادلان الحديث بصوت غير مسموع. اكتمل عدد الفتيات بالقفص بالحد المسموح، 5 معتقلات، 4 فتيات من طالبات الأزهر وخامستهن أنا، دخل أحد رجال الأمن يتنطع للتنصت على أحاديثنا، ووجدت إحدى صديقاتي المقربات وأخي وأختي يهرلون نحوي، وبأحضان صامته يحاولون التهوين علي، فوجئت بأنهم على علم بدخولي الحبس الانفرادي، وأن هناك موجة من الغليان الإعلامي وأن بعض الجهات الحقوقية أعلنت فتح باب التحقيق في ما تعرض له الفتيات من ضرب وتنكيل وحصر الإصابات.

أنا بخير.. كلمة بدأت بها حواري، وأنهيته: بس إحنا محتاجين هدوم، وأحذية، ومصحف. هو انتو مش جايبين حاجة معاكم تتاكلو، قابلوا سخافتي بابتسامات، في أقل من عشر دقائق صرخت السجانة بصوت به غلظة "الزيارة انتهت".

رجعت لغرفي بعنبر التحقيقات "ملحق الإخوان"، الذي تم أخلي من نصف المعتقلات بعد توزيعهن على العنابر المجاورة، جلست فوق سريري  أستمع لعائشة عبد الحفيظ تحكي ما حدث لباقي المعتقلات، تروي لي قائلة: "اطّمّنا على دارين مطاوع منذ قليل بقفص الزيارة، أودعوها في عنبر المخدرات، وإدارة السجن أعطت أوامر بمبيتها داخل الحمام، ظلت تبكي طوال الليل جالسة على أرض متسخة بمكان مظلم تحيطها كافة أنواع الحشرات، أما رشا منير المصابة بالقلب فتم إيداعها وشقيقتها بعنبر جنائي آخر، وهبة كردي وشهرتها "هبه إغماءات" وسميناها بهذا اللقب لكثرة ما تتعرض له من سقوط بدني مفاجئ، فقد تم إيداعها في عنبر الأموال العامة، وشيماء سيد بعنبر مرتكبي جرائم النشل والسرقة".

أما بنات العنبر السياسي الآخر "الأزهري" فوضعهن لم يقل قتامة عنا، إذ أبت قوات فض الشغب أن تترك أجسادهن دون تذكار، بخبط رؤسهن في حوائط الزنزانة، وركلهن من الخلف، لدرجة أدت إلى إصابة ياسمين ممدوح عبد المنعم، إحدى المعتقلات، بالنزيف والإغماء.

كانت ياسمين ضمن 15 طالبة معتقلة من داخل الحرم الجامعي بالقضية المعروفة بمجموعة روضة جمال والتي تضم 8 بنات: ﺁﻳﺔ عكاشة، ﺳﺎﺭﻩ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﻠﻲ، آﻻﺀ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﻠﻲ، ﻋﺎﺋﺸة ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻔﺘﺎﺡ، ﻳﺎﺳﻤﻴﻦ ﻣﻤﺪﻭﺡ، ﺃﺳﻤﺎﺀ ﻧﺼﺮ، ﺭﻭﺿﺔ ﺟﻤﺎﻝ، ﺷﻴﻤﺎﺀ ﻋﻤﺮ، ولم يصدر بحقهن حكم قضائي، رغم حبسهن ما يزيد عن سنة وثلاثة أشهر بسجن القناطر على ذمة تحقيقات لم تثبت إدانتهن.

كذلك أسفرت الحملة الأمنية عن ترحيل معتقلتين إلى سجن بنها، بناءً على توجيهات من إدارة السجن، وهما: الطالبة روضة جمال عبد العظيم، الفتاة التي لم تتجاوز الـ19 من عمرها، تدرس عامها الأول بكلية رياض الأطفال جامعة القاهرة، وتم اعتقالها تعسفاً من قبل سلطات الأمن المصرية من داخل حرم الجامعة في الثامن والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2013.

وكباقي زميلاتها، تعرضت لوابل من السباب المهين اُثناء اعتقالها  بقسم شرطة في مدينة نصر، والتهديد بالاغتصاب من قبل رجال الشرطة والمحققين، بل وتجاوزت السفالة الأمنية غايتها، حيث توعدها أحد الضباط قائلاً: هتخرجي من السجن وانتي "حامل"!.

 ثم نُقلت إلى معسكر قوات السلام، وهو مركز اعتقال غير رسمي، لإهانة المعتقلين، كانوا يبللون الأرضية بمياه قذرة لحرمانها من النوم وإجبارها على الوقوف لساعات. استغاثات وخطابات رسمية وإعلامية "محدودة"، توسلت بها أسرة المعتقله للمطالبة بإنهاء حالة التعذيب الممنهج الذي كانت تتبعه قوات "الأمن" تجاه المعتقلة، وترحيلها أسوة بباقي زميلاتها لسجن القناطر، حتى تم ترحيلها يوم 31 ديسمبر/كانون الأول 2013، إلى سجن القناطر، ظلت هناك حتى يوم التاسع من يونيو/حزيران 2014، يوم اقتحام سجن القناطر، حيث أعلنت الإدارة فيه الغضب عليها، مطالبين برحيلها عن السجن بدعوى "لسانها طويل وبترد على السجانات الشتائم"!

المعتقلة الثانية التي تم ترحيلها معها في اليوم نفسه هي الدكتورة سماح سمير أحمد (35 سنة) مديرة مستشفى منشية البكري في الحلمية الجيزة، والتي تم اعتقالها هي وزوجها يوم 27 ديسمبر/كانون الأول 2013، من أمام محيط جامعة الأزهر بتهمة توزيع وجبات لطلاب الأزهر! وحكم عليهما بـ3 سنين! حيث شرعت قوات فض الشغب بترحيلها بعباية السجن شبه الشفافة، واقتيادها لعربة الترحيلات، وإجبارها على أن تخرج من سجن القناطر من دون ارتداء ملابس ساترة لجسدها أو حجاب رأس، ومعاقبتها بالترحيل تحت حراسة مشددة لسجن دمنهور وإيداعها في غرفة الحبس الانفرادي.

ليل هادئ مليء بالأوجاع والأمل الخافت، ابتلاءات تطيل من أحاديثا وتعلقنا بالسماء، إن لم يكن بك سخط علينا فلا نبالي، ياربنا إن لم يكن بك سخط علينا فلا نبالي ربنا.

 (مصر)

المساهمون