أشياء يُحبِّها يُسري نصرالله: البهجة أولاً

12 يونيو 2019
يُسري نصر الله: بهجة الحياة (فيسبوك)
+ الخط -
"أريد أن أصنع فيلمًا عن الأشياء التي أحبّها في الحياة. يُمكن تفسير هذا أيضًا باعتباره موقفًا سياسيًا في مواجهة فترة تدّعي أنّ هذه الأشياء غير مُهمّة. (هناك) حالة يمينية فاشية تسيطر على العالم، وتقول للبشر إنّه من غير الضروريّ أن يستمتعوا بالحياة. إذا كانت الكآبة شعارًا مرفوعًا إنْ أردتَ أن تكون عميقًا، فأنا أريد أن أكون مُبهجًا". 

يقول يُسري نصر الله هذا كلّه ليكشف علاقته بفيلمه الروائي الطويل الأخير "الماء والخضرة والوجه الحسن" (2016). كلامه هذا منشور في حوار طويل لأحمد شوقي معه، صادر في كتاب مستقلّ (ص. 78) عن "مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية"، في دورته الـ6 (16 - 22 مارس/ آذار 2017). الأشياء التي يُحبِّها يُسري نصر الله تصنع فيلمًا: فنّ الطبخ والأكل، الحبّ، العلاقات الإنسانية، العيش في بيئة تتلاءم وحيوية أفراد في سلوك الحياة، إلخ.

اللحظة صعبة. قبل 4 أعوام فقط، يُنجز نصر الله "بعد الموقعة"، الموغل في تداعيات "ثورة 25 يناير" (2011)، وارتباكاتها. بين الفيلمين، تمرّ أعوام تحدث فيها انقلابات، وتقع مصائب، وتحصل تبدّلات. الثورة مُغتَالةٌ. حلم التغيير الجذري موءود. لعبة الضحية مُزعجة. يقول نصر الله إنّه لا يُحبّ "فكرة الضحية المسكين غير المسؤول عن تصرّفاته" (ص. 78). لهذا، يستعيد مشروعًا قديمًا له، ويُقرّر تحقيقه (الماء والخضرة والوجه الحسن). مشروع يمرّ في مطبّات متعلّقة بالكتابة والإنتاج، لكنه يتحوّل إلى فيلمٍ، تنوجد فيه مساحة إنسانية تبتعد عن وقائع العيش في تحوّلات مصيرية، فتتحدّد فيها أشكال أجمل وأصدق وأكثر شفافية للحياة.

يُعرض "الماء والخضرة والوجه الحسن" غدًا الخميس، 13 يونيو/ حزيران 2019، في افتتاح الدورة الـ6 لـ"مهرجان طرابلس للأفلام" (شمال لبنان)، المنتهية بعد 6 أيام. اختياره حاصلٌ في إطار تكريم المهرجان ليُسري نصر الله، الذي يترّأس لجنة التحكيم الخاصّة بالمسابقة الرسمية للأفلام الطويلة، ولليلى علوي، التي تؤدّي فيه أحد الأدوار الرئيسية.

سلاسة سرد، وبساطة لغة وقول، وشفافية إحساس ونبرة، أمورٌ تصنع فيلمًا يكتفي بالتقاط نبض أناسٍ يريدون عيشًا هانئًا، فيهيمون في ملذّات يرونها امتدادًا لأنفسهم ورغباتهم وأهوائهم. وإذْ يحتل الطبخ صدارة المشهد، من خلال عائلة تعمل في الطبخ لحفلات الأعراس، فإنّ مسائل أخرى مهمّة تنسلّ بين أصناف الطعام، مُساهمةً في تشكيل عالمٍ تختلط فيه مشاعر حبّ باختلاف طبقيّ، وهواجس فنّ برغبات مفتوحة على ماضٍ وحاضرٍ.

يختلف "الماء والخضرة والوجه الحسن" تمامًا عن سابقه، "بعد الموقعة"، المُنجز عام 2014. هذا نتاج لحظة ضاغطة. البلد يمرّ حينها في مرحلة مضطربة، والرؤية شبه غامضة. الأيام الـ18 لـ"ثورة 25 يناير" (2011)، المنتهية بتنحّي الرئيس السابق حسني مبارك، عاجزة عن استعادة المبادرة. التخبّطات تحول دون معاينة أهدأ وأعمق وأوضح. هذا طبيعي. يُسري نصر الله منخرطٌ في أحوال بلده وناس بلده. اشتغالاته السابقة مندرجة في سياق السرد الفردي للحكايات الجماعية، من دون انغلاق على الذات، بقدر ما تُصبح الذات مرايا جماعة وبيئة وأناس. "بعد الموقعة" انغماس أكبر في همّ جماعيّ، عبر حكايات بعض أهل "نزلة السمّان"، انطلاقًا من "موقعة الجمل" (هجوم "بلطجية" النظام على المتظاهرين في ميدان التحرير، في 2 فبراير/ شباط 2011).

يختزل يُسري نصر الله "موضوع" الفيلم بقوله إنّه عن "الخوف الظاهر من تجاوز المشكلات الكامنة كلّها". يُضيف: "هو شعورنا لمدة أيام بذوبان الفروق الطبقية، ثم عودة الذعر بصورة أعنف خلال العام التالي للثورة. هو حكاية بنت تذهب بدافع حماستها وفطرتها، ثم تحاول التراجع باقي الفيلم، في ظلّ خطاب ثوري عاجز عن الردّ على الأسئلة التي يفرضها الواقع اليومي للبشر" (ص. 72).

إذْ تبدو الخطابية المباشرة واضحة في مواقع مختلفة من "بعد الموقعة"، لحاجة النصّ ربما إلى توثيق اللحظة بما فيها من تساؤلات وارتباكات تفرض نوعًا من المباشرة في الحكي اليومي؛ فإنّ اختيار هذا النوع من التعبير حاضرٌ في "جنينة الأسماك" (2008) مثلاً، مع إتاحة مجالٍ مختلف لكلّ شخصية/ ممثل لقول شيء مغاير لمألوف السرد السينمائي في الأفلام الروائية. مجال يتمثّل بمواجهة مباشرة مع الكاميرا، للبوح ببعض مكنونات النفس والروح، بعيدًا عن سرديّة مشغولة ومضبوطة، وإنْ تمتلك تلك السرديّة نفسها هامشًا من العفوية أثناء التصوير. فالبوح، بالنسبة إلى يُسري نصر الله، أساسيّ، لأنّ الناس يحتاجون إليه كمتنفّس، بل كلغةِ قول. ومهما يتمكّن النص السينمائي من أن يعكس شيئًا من "بوح" الناس، فإنّ للبوح المباشر أفضليّة تعبيرٍ أعمق وأجمل، وإنْ يحمل في ذاته خطابية ما أو مباشرة ما، أحيانًا.

مع "الماء والخضرة والوجه الحسن"، تُصبح المتتاليات البصرية مرايا أجمل وأهدأ، وحوارًا متنوّع الأشكال مع الحياة والحبّ والجمال.
المساهمون