02 يونيو 2017
أشكال الحضور الديني في السعودية
هاشم الرفاعي
باحث وكاتب سعودي في علم الاجتماع، مهتم بدراسات علم الاجتماع الثقافية والدينية، ومهتم بدراسة الحركات الاجتماعية في الجزيرة العربية، مبتعث لدراسة علم الاجتماع في الولايات المتحدة.
يعتبر الدين والتديّن مكوناً أساسياً من مكونات المجتمع السعودي، ويكادان أن يكونا القيمة العليا في المجتمع، حيث إن حضورهما ذو كثافةٍ عاليةٍ، وملاحَظة للقاصي والداني، سواء بالاقتراب من التديّن أو بالبعد عنه، أو بمحاولة فتح أبواب جديدة ودروب لنشر أفكار التديّن، أو بمحاولة تحجيمه وتأطيره بقوالب محدودة في الفضاء العام. أي أن هناك صراعا أساسيا ينطلق ويعود إلى نقطة أساسية، هي أشكال الحضور الديني في مساحات المجتمع وفضاءاته.
الدين كفكرة مفهوم ثابت، التديّن كممارسة متغير ومتجدّد من حين إلى آخر. يبقى الدين كفكرة أنه أصلٌ لا خلاف عليه عند السواد الأعظم. لكن غالباً ما ينحصر الخلاف حول التديّن وأشكاله ومساراته وتوجهاته. من خلال محاولة تحقيب المجتمع السعودي تاريخياً، نستطيع أن نفهم أشكال الحضور الديني الغالب على الساحة، حيث إن هناك نوعا من استحضار التديّن يبقى موجوداً وملاحظاً بقوةٍ ولا يختفي، وهو ليس كالحضور الصوفي في مدن الحجاز، والحضور الشيعي في المنطقة الشرقية، بل هو مسيطر، وينتشر بشكل واسع.
ربما يكون من أهم الكتب التي وثّقت الحضور الديني في المجتمع السعودي "زمن الصحوة" لإستيفان لاكروا، من ترجمة ونشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر. حيث عملت أطروحته على توثيق مسيرة الصحوة الإسلامية في السعودية ودراستها، منذ نشأة المملكة وتكوينها إلى ما وصلت إليه عند أعتاب نهاية القرن التاسع عشر ومطلع الألفيه الجديدة. اعتمد الكتاب على نظرية العلامة الاجتماعي بورديو في "المجال" في الفضاءات العامة، حيث يصف المجال حلبةً تنافسيةً بين أطرافٍ على بساط السلطة والنفوذ في مجال أو فضاء معين، توجد فيه وتحتكره لمصالحها. ليس المراد في هذا المقال عرض الكتاب، وإنما يأتي ذكره هنا مثالاً جادّاً حاول دراسة التديّن عبر حركة الصحوة في المجتمع السعودي.
من الممكن أن نشير إلى أن هناك أربع مراحل زمنية مرت فيها حالة التديّن في المجتمع السعودي، التوحيد في عهد الملك عبدالعزيز، التكوين التديّني والبناء الشرعي للفضاء العام، الصحوة، ما بعد مرحلة الصحوة.
ربما كانت الدولة، عند مطلع تأسيسها، توظف التديّن لأجل توحيد الدولة، بحشد نخبةٍ محافظةٍ مقاتلةٍ تأتمر بأمر الملك عبد العزيز، وهي الجيش والجناح العسكري له، حيث عرفت فيما بعد بـ"المطاوعة" و بـ"إخوان من طاع الله". كانت هذه المجموعة التي سيطرت على الفضاء العام قرابة ربع قرن تنظر للملك عبد العزيز بأنه الإمام العادل، وقد كتب قاضي سدير عبدالله العنقري: "قد منّ الله على المسلمين بولايةٍ عادلةٍ دينية، وهي ولاية إمام المسلمين عبدالعزيز...، ومازالت رايته منصورةً، وجنود الباطل بصولته مكسوّة مقهورة، وأقام الله به
أود الشريعة، وأزال به الأفعال المنكرة الشنيعة". هذا ما كان يقوله عن المؤسس رجالات الدين لحشد الجموع، للوقوف في صفه، ومحاربة خصومه السياسيين، باعتبارهم كفاراً في بعض الأحيان، حيث كثافة فكرة الولاء (للمؤمنين) والبراء من الكفار كانت الفيصل في حالة حضور التديّن في تلك الحقبة. وكتاب علماء الإسلام للدكتور محمد مُلين درس تلك الحقبة بشكل موسع.
المرحلة الثانية هي التكوين التديني والبناء الشرعي للفضاء العام، وربما تكون الأكثر أهمية في تاريخ المملكة، حيث ساهمت في هيكلة البناء الديني، من فضاء عام إلى مؤسساتٍ تقوم على بعث التديّن في الفضاء العام ليس داخل السعودية فقط، بل حتى خارجها. أسّس المفتي العام محمد بن إبراهيم آل الشيخ ( نجم المرحلة والفاعل الأساسي) أول معهد للعلوم الدينية (المعهد العلمي) عام 1950، ووصل عدد هذا النوع من المعاهد إلى 22 في عام 1964. إضافة إلى كلية الشريعة واللغة العربية في الرياض 1953، ثم تم إنشاء المعهد العالي للقضاء، ليستقبل خريجي الكليتين السابقتين للعمل في سلك القضاء. وفي تطور للناتج السابق، أنشأ المفتي العام دار الإفتاء والإشراف على الشؤون الدينية في عام 1955، وكان هدفها، كما يذكر الدكتور محمد ملين في كتابه "علماء الإسلام" هو السيطرة على الفضاء الديني السعودي من خلال إدارة الوعاظ والمرشدين في سلك الوظائف الحكومية. في 1957، أسّس الملك سعود الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، برئاسة المفتي العام محمد آل الشيخ. وكذلك مؤسسة رابطة العالم الإسلامي عام 1962 التي هي بمثابة انعكاس خارجي لجهود الداخل السعودي، في بعث أفكار السلفية الوهابية في العالم الإسلامي عبر التعليم والمساعدات المالية والعينية. وكانت هذه المرحلة قاعدةً صلبةً غرست أفكارها بعمق في المجتمع السعودي، عبر التعليم والمساجد والدعاة والوعّاظ.
الفترة الثالثة هي الصحوة، من الصعود إلى الانحسار الحادّ لها. بدأت الصحوة بمزيج من أفكار
السلفية كعقائد، ومن الإخوان المسلمين كحراك وانتشار يملأ الفضاء بعدة أوجه وأيديولوجيات مختلفة الأفكار والقواعد والأهداف. تقاسم الفضاء في تلك المرحلة عدة تياراتٍ، تلاقت في مراتٍ، وتصادمت في أخرى إلى حد التحريض والتماهي مع السلطة إلى درجة الفجور في الخصومة. من أهم معالم تلك المرحلة أيضاً الجهاد الأفغاني الذي زاحمت وقائعه فضاءات الصحوة مدّا وجزراً، ما بين بقاء في أرض الوطن أو هروب إلى ساحات الوغى للجهاد وإعلاء كلمة الله، وبكل تأكيد، مع دعم منقطع النظير من الحكومة السعودية. تقلص نفوذ الصحوة وتحجم بعد تبلور مطالب سياسية إصلاحية من عدة مبادرات، وتم تحجيم دور رواد تلك المرحلة.
المرحلة الأخيرة: ما بعد الصحوة، وهي مرحلة تقسيم الإرث التاريخي للمرحلة السابقة بعدة أشكال، تارة بتجديد الخطاب الإسلامي وفتح آفاق فكرية حديثة، وتارة بالوقوف على أعتاب لحظة تاريخية بالمطالب والأهداف نفسها. ما بعد الصحوة هي حالة المراجعة والارتداد عن كثيرٍ من أفكار الصحوة. وفي مسارٍ آخر، هي أيضاً تطور أفكار الصحوة. لكن، في قالب جديد وحديث. وبكل تأكيد، تلاشى الاحتشاد الجماهيري في هذه المرحلة. لكن، يبقى حضور الأفكار الدينية مسيطراً على الفضاء العام، سواء مع أو ضد، كإثارة تساؤلاتٍ أساسية عن دور الدين في المجتمع.
الدين كفكرة مفهوم ثابت، التديّن كممارسة متغير ومتجدّد من حين إلى آخر. يبقى الدين كفكرة أنه أصلٌ لا خلاف عليه عند السواد الأعظم. لكن غالباً ما ينحصر الخلاف حول التديّن وأشكاله ومساراته وتوجهاته. من خلال محاولة تحقيب المجتمع السعودي تاريخياً، نستطيع أن نفهم أشكال الحضور الديني الغالب على الساحة، حيث إن هناك نوعا من استحضار التديّن يبقى موجوداً وملاحظاً بقوةٍ ولا يختفي، وهو ليس كالحضور الصوفي في مدن الحجاز، والحضور الشيعي في المنطقة الشرقية، بل هو مسيطر، وينتشر بشكل واسع.
ربما يكون من أهم الكتب التي وثّقت الحضور الديني في المجتمع السعودي "زمن الصحوة" لإستيفان لاكروا، من ترجمة ونشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر. حيث عملت أطروحته على توثيق مسيرة الصحوة الإسلامية في السعودية ودراستها، منذ نشأة المملكة وتكوينها إلى ما وصلت إليه عند أعتاب نهاية القرن التاسع عشر ومطلع الألفيه الجديدة. اعتمد الكتاب على نظرية العلامة الاجتماعي بورديو في "المجال" في الفضاءات العامة، حيث يصف المجال حلبةً تنافسيةً بين أطرافٍ على بساط السلطة والنفوذ في مجال أو فضاء معين، توجد فيه وتحتكره لمصالحها. ليس المراد في هذا المقال عرض الكتاب، وإنما يأتي ذكره هنا مثالاً جادّاً حاول دراسة التديّن عبر حركة الصحوة في المجتمع السعودي.
من الممكن أن نشير إلى أن هناك أربع مراحل زمنية مرت فيها حالة التديّن في المجتمع السعودي، التوحيد في عهد الملك عبدالعزيز، التكوين التديّني والبناء الشرعي للفضاء العام، الصحوة، ما بعد مرحلة الصحوة.
ربما كانت الدولة، عند مطلع تأسيسها، توظف التديّن لأجل توحيد الدولة، بحشد نخبةٍ محافظةٍ مقاتلةٍ تأتمر بأمر الملك عبد العزيز، وهي الجيش والجناح العسكري له، حيث عرفت فيما بعد بـ"المطاوعة" و بـ"إخوان من طاع الله". كانت هذه المجموعة التي سيطرت على الفضاء العام قرابة ربع قرن تنظر للملك عبد العزيز بأنه الإمام العادل، وقد كتب قاضي سدير عبدالله العنقري: "قد منّ الله على المسلمين بولايةٍ عادلةٍ دينية، وهي ولاية إمام المسلمين عبدالعزيز...، ومازالت رايته منصورةً، وجنود الباطل بصولته مكسوّة مقهورة، وأقام الله به
المرحلة الثانية هي التكوين التديني والبناء الشرعي للفضاء العام، وربما تكون الأكثر أهمية في تاريخ المملكة، حيث ساهمت في هيكلة البناء الديني، من فضاء عام إلى مؤسساتٍ تقوم على بعث التديّن في الفضاء العام ليس داخل السعودية فقط، بل حتى خارجها. أسّس المفتي العام محمد بن إبراهيم آل الشيخ ( نجم المرحلة والفاعل الأساسي) أول معهد للعلوم الدينية (المعهد العلمي) عام 1950، ووصل عدد هذا النوع من المعاهد إلى 22 في عام 1964. إضافة إلى كلية الشريعة واللغة العربية في الرياض 1953، ثم تم إنشاء المعهد العالي للقضاء، ليستقبل خريجي الكليتين السابقتين للعمل في سلك القضاء. وفي تطور للناتج السابق، أنشأ المفتي العام دار الإفتاء والإشراف على الشؤون الدينية في عام 1955، وكان هدفها، كما يذكر الدكتور محمد ملين في كتابه "علماء الإسلام" هو السيطرة على الفضاء الديني السعودي من خلال إدارة الوعاظ والمرشدين في سلك الوظائف الحكومية. في 1957، أسّس الملك سعود الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، برئاسة المفتي العام محمد آل الشيخ. وكذلك مؤسسة رابطة العالم الإسلامي عام 1962 التي هي بمثابة انعكاس خارجي لجهود الداخل السعودي، في بعث أفكار السلفية الوهابية في العالم الإسلامي عبر التعليم والمساعدات المالية والعينية. وكانت هذه المرحلة قاعدةً صلبةً غرست أفكارها بعمق في المجتمع السعودي، عبر التعليم والمساجد والدعاة والوعّاظ.
الفترة الثالثة هي الصحوة، من الصعود إلى الانحسار الحادّ لها. بدأت الصحوة بمزيج من أفكار
المرحلة الأخيرة: ما بعد الصحوة، وهي مرحلة تقسيم الإرث التاريخي للمرحلة السابقة بعدة أشكال، تارة بتجديد الخطاب الإسلامي وفتح آفاق فكرية حديثة، وتارة بالوقوف على أعتاب لحظة تاريخية بالمطالب والأهداف نفسها. ما بعد الصحوة هي حالة المراجعة والارتداد عن كثيرٍ من أفكار الصحوة. وفي مسارٍ آخر، هي أيضاً تطور أفكار الصحوة. لكن، في قالب جديد وحديث. وبكل تأكيد، تلاشى الاحتشاد الجماهيري في هذه المرحلة. لكن، يبقى حضور الأفكار الدينية مسيطراً على الفضاء العام، سواء مع أو ضد، كإثارة تساؤلاتٍ أساسية عن دور الدين في المجتمع.
دلالات
هاشم الرفاعي
باحث وكاتب سعودي في علم الاجتماع، مهتم بدراسات علم الاجتماع الثقافية والدينية، ومهتم بدراسة الحركات الاجتماعية في الجزيرة العربية، مبتعث لدراسة علم الاجتماع في الولايات المتحدة.
هاشم الرفاعي
مقالات أخرى
02 ابريل 2017
22 فبراير 2017
07 فبراير 2017