أسوار، أسوار

14 مارس 2016
+ الخط -

نحن، الآن، في زمن فرار البشر، بمئات الآلاف، من ديارهم التي حرقتها البراميل المتفجّرة والدبابات والقتلة المنفلتون من أيّ عقال. بشر، من كل فجٍّ عميق، يرمون أنفسهم في البحار والقفار. لا الموت، ولا العراء، ولا المجهول يعيق تدفقهم إلى ما يظنونه الخلاص. العالم الحديث صنع أسواراً معنوية، وحجز حركة الناس خلفها، سمّاها الحدود. قد تكون هناك حواجز طبيعية تفصل بين الدول، وقد يكون الحدّ مجرد خطّ وهمي.

أمام وضعٍ كهذا، عادت الأشكال الأولى للحدود، على الرغم من إزالتها في كياناتٍ توحَّدت مثل الاتحاد الأوروبي.

يقول بورخيس: قرأت، قبل أيام، أن الرجل الذي أمر ببناء سور الصين اللانهائي هو نفسه الإمبراطور شي هانغ تي، مَنْ أصدر مرسوماً بحرق كل الكتب التي كتبت قبل عصره. يبرّر صاحب الفانتازيات الشرقية قوله هذا، بشيء من الفذلكة وقليل من الاقتناع، إن "الأسوار دفاعية" (لردع البرابرة)، أما حرق شي هانغ تي الكُتبَ فلمنع معارضيه من الاستشهاد بها لمدح الأباطرة السابقين. هل كان سور الصين العظيم أول سور في العالم؟ كلا، على الأغلب. إنه الأشهر بين الأقدم. فمنذ ابتكر الإنسان الزراعة فن بقائه على الأرض والإقامة فيها، عَمِلَ على إحاطة مصالحه (الحيوية) بأسيجةٍ وأسوار. حتى في تلك الأوقات المشاعية، كانت الملكية موجودة.. ويراقُ على جوانبها الدم. أسيجةٌ، أو أسوارٌ كهذه، لم تكن ضد "الآخر". فهذا الأخير لم يكن قد ولد بعد. فـ "الآخر" ابن الأفكار والعقائد التي ترفع قوماً فوق قوم.. أو تميِّز، على الأقل، بينهم. وهذه العقائد والأفكار كانت لا تزال في رحم الغيب. سيَّجت المجموعات البشرية الأولى مصالحها (قراها، بساتيانها، ينابيعها إلخ) لحماية هذه المصالح التي صار يتوقف عليها أمر حياتها وموتها، بعدما راحت الغابة تتراجع، والأمطار ترتفع. تمكن ملاحظة مثل هذه الاحتياطات الدفاعية في المستوطنات البشرية الأولى، مثل عين غزال (الأردن)، أريحا (فلسطين)، تل أبو هريرة (سورية). لم يكن السياج، أو السور، ضد "الآخر" المسمَّى عند الإمبراطور الصيني تي، بربرياً. لكن، شيئاً فشيئاً ستختلط فكرة الأسوار بين الحمائي والانعزالي، الدفاعي والتفوّق العرقي، أو الحضاري. 

كانت الصين كبيرة وشاسعة، وكان الغزو والغزو المضاد ساري المفعول. كذلك يمكننا إدراج قلاع القرون اللاحقة وأسوارها عندما كان لهذا التدبير الهندسي بعد حمائي فعلي. لكن، ليس في الزمن الذي صارت الحمم تهبط فيها من السماء، وليس من منجنيقاتٍ رابضةٍ أمام القلاع، كأنها ديناصورات مصبَّرة. في زمن الطائرة، انكشفت الأرض. وفي زمن المدفعية الثقيلة والصواريخ، انتفت فاعلية الأسوار. مَنْ يقيم سوراً، أو سياجاً كهربائياً، لمنع جيش حديث من التقدّم؟ لا أحد. السور، هنا، في مواجهة قَدَم الإنسان، وليس في مواجهة الدبابة أو الطائرة. إنها ضد عديم الحيلة، أو الهارب من حربٍ أو طغيان، أو الباحث عن لقمة عيش. أمام هؤلاء، تستعيد الأسوار هويتها وفعاليتها القديمتين.

بعد انهيار جدار برلين، ظن الناس أن العالم لن يرى جدراناً أيديولوجية وقمعية مثل هذه أبداً. لكن هذا الظن خاطئ. لأنه يضرب صفحاً عن التحيّز والتعصّب وتقديم الأنا على الغير التي لا تزال حيَّة ترزق في أفكارٍ وبشر ونخب حاكمة. على هذا النحو، ستسجل إسرائيل، باسمها، أول جدار يُشاد بعد انهيار جدار برلين.. وفي معناه بالضبط: عزل الأخيار عن الأشرار. لم يكن جدار برلين لغايةٍ أمنية صرف، بل لغايةٍ أيديولوجية، بل باثولوجية. ففي الطرف الآخر من الجدار، تكمن جرثومةٌ معدية (الغرب الرأسمالي)، وإذا علمنا أن فكرة التفوّق الديني الأسطوري (مُرَكَّبة على مركزية أوروبية) راسخةٌ في عقل النخب الإسرائيلية الصهيونية حيال العرب "البدو"، ندرك أن هناك طابعاً عنصرياً، وليس أمنياً فقط، مثلما سيكون للسور المقترح قيامه، هذه الأيام، في مدينة القدس. فكم من الأسوار ستتحمل هذه الشقفة من الأرض المسماة الضفة الغربية (5680 كيلومتراً مربعاً) المخترقة بجدار الفصل العنصري، وجدران المستوطنات المنتشرة على جسدها كالطفح، كالجدري؟  

 

 

 

 

 

 

 

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن