في السابعة من عمرها أحبت فاطمة حرفة والدها، وهي حرفة المشغولات النحاسية. بدأت في شغله والرسم عليه، وكان أكثر ما يستهويها الدقّ على القطع لتتحول إلى أساور تزين المعاصم. كانت كلما تذهب إلى المدرسة وتعود منها، تمر بمعمل والدها مع إخوته.
هي أصغر شقيقاتها الأربع فوالدها لم ينجب ذكوراً. ولكونها الصغيرة وافق على طلبها في تعلم الحرفة ليبقى إرثه في العائلة. لكنّ ذلك كانت دونه تضحيات، إذ تركت فاطمة المدرسة عندما كانت في الصف الخامس الأساسي، ونزلت إلى المعمل لتصير بعد سنوات سيدة المعمل وصاحبته.
شقيقاتها لم يرغبن بتعلم الحرفة، لكنّهن عملن فيها لاحقاً بائعات. بالنسبة لها، كانت تحب تحدي فكرة أنّ هذه الحرفة صعبة على الفتيات، ونجحت في ذلك.
فاطمة طرطوس، من طرابلس، شمال لبنان، تجول بمشغولاتها في المعارض، في مختلف المناطق اللبنانية. تقول المرأة التي تعمل في النحاس منذ أكثر من ثلاثين عاماً: "كانت حرفة والدي وأشقائه، وكانت مشغولاتهم تشدني. بتّ كلّما أعود من المدرسة أذهب إلى المعمل وأجلس قربهم فأراقب كيف يحفرون على النحاس من خلال الدقّ. بتّ أحشر أنفي في كلّ شيء يومياً. وكنت في أيام الإجازة الصيفية أطلب من والدي النزول إلى المعمل لتعلم الحرفة. وبالفعل، سمح لي بذلك. في الإجازة الأولى والثانية والثالثة تعلمت أسرار الحرفة كلها. وبعدما أصبحت أتقنها تماماً طلبت من والدي أن أترك المدرسة وأعمل معه في المعمل. في البداية رفض طلبي، لكن تحت إلحاحي المستمر، وشعوره أنّه يجب أن تتعلم إحدانا الحرفة وافق، فاستلمتها، وأنا أصغر شقيقاتي".
أما عن الحرفة، فتقول: "كانت في الماضي أفضل بكثير بالنسبة للمبيعات مما هي عليه الآن. كان النحاس كالذهب. لكنّها تتراجع عاماً تلو آخر، خصوصاً بسبب إهمال الدولة لها وللحرفيين الذين يعملون فيها". تتابع: "في بعض الأوقات يكون العمل ممتازاً، ونعمل ليلاً ونهاراً في تصنيع المشغولات. وفي أوقات أخرى تمرّ أشهر عديدة من دون أيّ إنتاج. نقاط بيعنا موجودة في سوق النحّاسين في طرابلس، وشقيقاتي هن من يدرن تلك المتاجر، أما أنا فأعمل في التصنيع فقط، وقبل عدة سنوات افتتحت معملي الخاص وبات لديّ عمال يساعدونني".
كونها امرأة تعمل في معمل بين الرجال فقط، تقول: "أحب هذه الحرفة، والناس في السوق اعتادوا عليّ. لكنّي في جميع الأحوال أحظى بحماية خاصة من أقاربي، خصوصاً أنّني المرأة الوحيدة في المعمل وأبقى هناك حتى ساعات متأخرة من الليل". وعن عمل المرأة في مثل هذا المجال، تقول: "لا أرى أنّ هناك فرقاً بين المرأة والرجل في العمل، الفكرة تتعلق فقط بحبّك للمهنة التي اخترتها".
مشغولات فاطمة عديدة ومتنوعة، كلّها يدخل فيها النحاس بمختلف أشكال شغله. من بينها إطارات صور، ولوحات كبيرة، وهدايا متنوعة، وشعارات شركات، وتحف. تشير إلى أنّ بعض هذه المشغولات تطلى بالذهب والفضة. وتلفت إلى أنّ العمّال لديها ماهرون في تصنيع النحاس وتحويله وشغله، ولكلّ واحد منهم مهمته المحددة ومناوبته في القطعة حتى تنجز بالكامل. أما بالنسبة لها، فتقول: "يجب أن أطلع على كلّ قطعة تصنع، ويجب أن أكون على دراية بكلّ قطعة موجودة لدينا، لذلك فعملي متعب جداً".
وعن العمل عموماً، تقول: "نسوّق منتجاتنا في مختلف المناطق اللبنانية، وكذلك في الخارج خصوصاً في دول الخليج العربي. شاركت مرةً في معرض خارج لبنان، وكان مدعوماً من الحكومة اللبنانية وهو ما أتمنى أن يتكرر". تؤكد تلك الأمنية في أن تقدم الدولة دعمها لهذه الحرف التي قد تنقرض، كما تقول، إن لم تحصل على الدعم الكافي الذي يمكّن الحرفيين من الاستمرار.
تعلمت فاطمة الحرفة من والدها وحافظت على هذا الإرث العائلي، لكنّها لا تريد تعليمها لأولادها. تقول: "على أهمية هذه الحرفة وعلى حبي الشديد لها، إلا أنني لا أرغب في تعليمها لأولادي، لأنّها لن تكفيهم مادياً في المستقبل. أيّ مهنة أخرى كفيلة بأن يعيش الإنسان حياة أفضل ممن يعملون في حرفتنا".