أسئلة مصرية باقية منذ "3 يوليو"
هناك وجهة نظر يتبناها مثقفون مهمومون بالشأن الوطني المصري، بلورها الدكتور خليل العناني، في مقاله "لم يعد انقلاباً" في "العربي الجديد" في١٠ سبتمبر/أيلول ٢٠١٤. وملخص وجهة النظر تلك أن ما جرى في مصر في 3 يوليو/تموز ٢٠١٣ كان انقلاباً عسكرياً على السلطة والنظام، تم بنجاح وحقق غرضه. وانتقل الفاعلون الرئيسيون إلى مرحلة جديدة للتأسيس لنظام حكم جديد، وتكريس هذا النظام وتثبيت أركانه، وهكذا يكون الفعل الانقلابي قد أنجز نفسه، فلم يعد هناك انقلاب تتم المطالبة بإسقاطه، ولم يعد هناك مجال للحديث عن عودة الشرعية، ممثلة في شخص الرئيس المنتخب، محمد مرسي، الذي تم عزله، ثم جرى اعتقاله، ثم تقديمه للمحاكمة في تهم جنائية، منها التخابر مع جهات أجنبية والخيانة. وأن الاستمرار في هذا السياق استنزاف للجهد والوقت، بل وتعريض عناصر عديدة لمخاطر غير محسوبة، من الاضطرار لترك البلاد، إلى الاعتقال والسجن، وتصل إلى حد الإصابة الجسدية والقتل، وأيضاً حصر القضية واختزالها في عودة شرعية الرئيس محمد مرسي. وأن على من يتمسكون بهذا النهج مراجعة موقفهم بشجاعة، وبنظرة أكثر شمولاً، وأيضاً أكثر واقعية، فلم يعد هناك انقلاب يطالبون بإسقاطه، ولم تعد منطقية عودة مرسي إلى الرئاسة. والقضية الآن هي قضية صراع مع النظام الجديد الذي يسعى إلى تثبيت أركانه، قبل أن يتمكن من ذلك.
تجد وجهة النظر هذه قبولاً، ليس فقط لدى مثقفين أشرت إليهم، بل أيضاً لدى قطاعات عريضة من المصريين، خصوصاً في أوساط الشباب والبسطاء غير المسيسين، والذين يعبرون عن وجهة نظرهم بجملة بسيطة "لا عسكر ولا إخوان". وفى المقابل، هناك معارضة شديدة لهذه الرؤية من جماعة الإخوان المسلمين والمتعاطفين مع فكرة الشرعية، بمفهوم عودة الرئيس مرسي إلى الرئاسة. بالطبع، لا يمكن إهمال قطاع كبير آخر، يرى فيما جرى في 30 يونيو/حزيران 2013 ثورة أبهرت العالم، وما وقع في 3 يوليو استجابة من القيادة العسكرية الوطنية لإرادة جماهير تلك الثورة. إذن، هل نحن أمام انقلاب عسكري قائم مطلوب إسقاطه، وإعادة الرئيس الشرعي المعزول والمحبوس؟ أم أمام انقلاب لم يعد انقلاباً، بعد أن نجح، وأدى إلى قيام نظام جديد مطلوب معارضته لإسقاطه؟ أم هي ثورة جماهير شعبية لبى الجيش نداءها وحقق مطالبها، وعلينا أن نصطف خلف القيادة التي أفرزتها القوات المسلحة للوطن، أو، على أقل تقدير، الانتظار ومنحها فرصة؟
لا أعتقد أن هناك من يستطيع تقديم إجابات موضوعية على تلك الأسئلة شديدة الوضوح، ليس لصعوبتها، ولكن، لأننا نعيش حالة نادرة من الاستقطاب العاطفي، والطبقي أيضاً، لم يشهده المجتمع المصري من زمن طويل، وربما لم يشهده من قبل. لذلك، لن تكون إجاباتنا مبنية على العقل والمنطق، ولكنها ستكون منطلقة من الانتماء الطبقي أو الطائفي أو الفئوي، للأسف الشديد. بل بلغ بنا الأمر أن من يخالف رؤيتنا خائن وعميل وعلماني ضد الدين، أو متطرف وتكفيري وإرهابي. هذا هو المشهد المصري، مصر الرسمية تحارب الإرهاب، ومصر الإخوانية تحارب الانقلاب، ومصر الصامتة المقهورة لا تريد هذا ولا ذاك.
ماذا لو قدمنا رؤية مختلفة من خارج الصندوق؟ ماذا لو قلنا إن ما جرى في 30 يونيو لم تكن ثورة شعبية، وما وقع في 3 يوليو لم يكن انقلاباً؟ نعم، كانت هناك حركة جماهيرية واسعة، لكنها لم تكن ثورة ضد نظام حكم وسلطة بكل مقوماتها وآلياتها وما تملكه من قوة، لسبب بسيط هو أن الرئيس وحزبه وجماعته لم يكونوا قد أقاموا نظاماً، ولا امتلكوا سلطة حقيقية. كانت تلك الحركة الجماهيرية تطالب بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، أو حتى باستقالة الرئيس، مجرد تطالب، في حراسة وتأمين قوات الجيش والشرطة التي هي قلب النظام ودرعه، وأيضاً سيفه عند اللزوم، ورعاية كل أجهزة الدولة وسلطاتها. فكيف تكون تلك ثورة شعبية ضد النظام والأجهزة والسلطة التي تؤمن حركتها؟ الحقيقة أن الجماهير التي خرجت، وهي بالفعل كبيرة، كانت تناشد تلك السلطة تلبية مطالبها، بعد ترتيب واتفاق معها، ولعله أمر غير مسبوق في تاريخ التحركات الجماهيرية.
وماذا، أيضاً، لو قلنا إن ما وقع في 3 يوليو لم يكن انقلاباً عسكرياً على النظام، لسبب بسيط أن قيادة القوات المسلحة، والتي وقفت خلفها كل أجهزة الدولة ومؤسساتها الأمنية والاقتصادية والإدارية، بل والدينية والإعلامية، وأيضاً تيارات وقوى سياسية وشخصيات كانت تعد رموزاً لحراك وطني. ذلك كله هو بالقطع جوهر النظام/ الرچيم، فهل انقلب النظام على نفسه؟
إذن، ما الذي جرى بالضبط؟ وماذا يعنى خروج قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 3 يوليو يحيط بهم كوكبة من رؤوس المؤسسات الدينية والسياسية وحركات شعبية، وإعلان القائد العام ورئيس المجلس خارطة جديدة لمستقبل البلاد، ترعاها القوات المسلحة، ثم خروج القائد العام للقوات المسلحة، بعد أقل من شهر، يطلب من جماهير الشعب تفويضه لمحاربة الإرهاب المحتمل الذي قد يتصدّى لمسار خريطة المستقبل التي طرحتها القوات المسلحة؟ ومرة أخرى، تخرج جماهير غفيرة لتمنح القائد التفويض. للإجابة على هذا التساؤل المشروع، علينا الرجوع إلى 11 من فبراير/شباط من العام ٢٠١١، عندما قرر حسني مبارك التخلي عن منصب رئيس الجمهورية، تحت ضغوط عديدة وفى ظروف خاصة، وتضمن قراره تسليم السلطة إلى القوات المسلحة، ممثلة في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بتكليفه بإدارة شؤون البلاد. واستقبل المصريون القرار بترحاب كبير للشق الأول، تخلي مبارك عن المنصب، واعتبروا ذلك إنجازاً ثورياً، وبقدر كبير من عدم الإدراك الصحيح للشق الثاني، وهو تكليف المجلس الأعلى بإدارة شؤون البلاد. وتولى المجلس الأمر من اللحظة الأولى في مساء ذلك اليوم، وحافظ على بنية النظام/ الرچيم، وأدار عمليةً سياسيةً أفرزت، في البداية، برلماناً بتركيبةٍ لا تتسق مع النظام، فكان لا بد من حله، وقد كان. ثم أفرزت العملية السياسية نفسها رئيساً من خارج النظام، بل أظهر توجهاته بشكل واضح، لبناء نظام مختلف، فكان لابد من عزله، فهل نسمي هذا انقلاباً على رئيس منتخب، حتى لو كان بأغلبية بسيطة، أو نسميه انقلاباً على تجربة ديموقراطية غير مكتملة، أو تصحيحاً للأوضاع، وحفاظاً على النظام/ الرچيم من القوة التي ارتضاها الناس لإدارة شؤون البلاد، بعد تخلي مبارك عن منصبه، وتكليفها بذلك؟ قد تختلف الإجابات وتتعدد.
تبقى الحقيقة التي لا جدال فيها، وهي أننا مختلفون وبحدّة. والأهم أننا حرمنا من استكمال تجربة ديموقراطيةٍ كنا تستحقها، بل ودفعنا ثمناً غالياً ولم نحصل عليها. فهل نتفق على الحد الأدنى، وهو النضال من أجل الديموقراطية بمفهومها البسيط، وهو العودة إلى الشعب من جديد، بضوابط وقواعد متعارف عليها في كل العالم الحر، أي من دون وصاية أو حجر من أي طرف، تحت أي دعوى كانت. نضال وطني من أجل بداية جديدة، شريطة أن تكون سياسية، سلمية، مدنية، من دون آباء روحيين، ومن دون قادة ملهمين. فقط، ماذا يريد الناس البسطاء من أبناء بلدي لوطنهم؟
بالمناسبة، هناك أناس بسطاء في اسكتلندا سيجرون استفتاء للانفصال عن المملكة المتحدة، بعد ٣٠٧ عاماً من الاتحاد. وهناك أناس بسطاء فى باڤاريا، يسعون إلى إجراء استفتاء للانفصال عن ألمانيا الاتحادية، ضاربين عرض الحائط بجهود بسمارك قديماً، والمليارات التي دفعها الشعب الألماني لاستعادة ألمانيا الشرقية إلى الاتحاد. والمثير أن أحداً لم يتهمهم بأنهم دعاة انفصال، أو يهددون الأمن القومي البريطاني أو الألماني، أو بأنهم خونة وإرهابيون. شعوب تحترم حرية الإنسان وحقه في الاختيار، حتى لو اختار الانفصال من دون ضغط أو وصاية.