تواجه المصارف التجارية الكبرى في العالم أزمة في توظيف السيولة الضخمة التي جمعتها من أموال التحفيز، خاصة المصارف الأميركية الكبرى؛ إذ تمكنت المصارف الأميركية من زيادة إيداعاتها بنحو تريليون دولار في الربع الثاني، ليبلغ حجم السيولة لديها نحو 2.4 تريليون دولار في نهاية النصف الثاني من العام الجاري، بينما تمكنت المصارف الأميركية الأربعة الكبرى وهي "جي بي مورغان" و"سيتي غروب" و"بنك أوف أميركا" و"ويلز فارغو" من زيادة حجم السيولة النقدية بنحو 900 مليار دولار خلال العام الجاري، وذلك وفقاً لبيانات مؤسسة ضمان الإيداعات الأميركية.
وبحسب الأرقام، لدى المصارف الأميركية أكبر حجم من السيولة في التاريخ، لكنها تواجه أزمة في تحقيق عوائد مجزية من هذه السيولة الضخمة بسبب التداعيات التي تركتها جائحة "كوفيد 19" على النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة، وارتفاع معدلات البطالة، وتضاؤل الدخول التي تحققها عائلات الطبقة الوسطى التي عادة ما ترفع من القوة الشرائية في السوق الأميركي.
غير أنّ أزمة الربحية ليست وقفاً على المصارف الأميركية، ولكنها تعتمد على مصارف أوروبا واليابان التي تعاني بدرجة أكبر من نظيراتها الأميركية بسبب نسبة الفائدة السالبة التي تضرب هوامش الربح من عمليات القروض. ويرى محللون أن المصارف التجارية العالمية تواجه أربع عقبات رئيسية في الحصول على ربحية مجزية من السيولة المتوافرة لديها.
وهذه العقبات تتمثل بالفائدة المصرفية المنخفضة، والمخاطر المصاحبة للاستثمار في أسواق المال وتجارة صرف العملات، ومخاوف عدم السداد في عمليات الإقراض في أسواق المال الناشئة، وتراجع عمليات الحيازة والدمج وإدارة عمليات إصدارات الأسهم الجديدة وسندات الدين التي تصدرها الدول والشركات.
وتحقق المصارف الأميركية أرباحاً ضخمة من هذه العمليات، وتعتمد عليها في زيادة ربحيتها، في وقت تتراجع فيه أسعار أسهمها في البورصة الأميركية. ويمنع مصرف الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) المصارف التي حصلت منه على قروض وتسهيلات مالية، من إعادة شراء أسهمها من سوق المال.
وكانت المصارف الأميركية قد حصلت على حصة 62% من المصاريف العالمية الخاصة بنصائح الشركات وإدارة الإصدارات في العام الماضي. وحصلت أيضاً على حصة 70% من عمليات الحيازة والدمج العالمية و60% من عمليات إيداعات الشركات وتحويلاتها المالية، وذلك وفقاً للبيانات التي نشرتها شركة "كوليشن" الأميركية. ولكن كل هذه العمليات تبخرت خلال العام الجاري بسبب محاصرة كورونا للنشاط التجاري والتشغيل الكامل للاقتصاد.
على صعيد العوائد المجنية من عمليات القروض الشخصية وإقراض الشركات، يلاحظ أن الفائدة المنخفضة المقتربة من الصفر في الولايات المتحدة وتحت الصفر في أوروبا واليابان ضربت هذه العوائد، بسبب هامش الربح الضئيل في أميركا والمعدوم في أوروبا واليابان.
وعادة ما تُقرض البنوك السيولة التي لديها بسعر فائدة أعلى من معدل الفائدة التي تدفعها لأصحاب الادخار والإيداعات. ولكن بسبب إغلاق النشاط الاقتصادي، وحتى بعد فتح هذه الأنشطة، فإن قطاعات اقتصادية مهمة كانت تحرك عمليات القروض الشخصية في موسم الصيف، توقفت تقريباً، وهي قطاع السفر والسياحة وما يتبعه من نشاطات الطيران والفنادق والمطاعم والترفيه والخدمات المصاحبة الأخرى لحركة السفر.
وتباطؤ هذه القطاعات الحيوية يمثل ضربة لنشاط القروض الشخصية والعوائد المجنية من استخدام بطاقات الائتمان خلال الصيف الحالي. وحتى البدائل الأخرى التي كانت تعتمد عليها المصارف في أوروبا، وهي زيادة الرسوم على بعض العمليات المصرفية مثل رسوم "السحب على المكشوف"، تراجعت بسبب قلة حركة الناس التي تدفعهم إلى الاستدانة من المصارف.
أما العامل الثاني المتمثل بمخاطر التجارة في الأسهم والسندات وأسواق الصرف العالمية، فيرى العديد من المستثمرين في البورصات أن سوق "وول ستريت" قد تكون وصلت إلى الذروة، وأن الأصول التي تجري المتاجرة بها باتت متضخمة، ووصلت إلى مرحلة الفقاعة، وقد تنفجر بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. وبالتالي، فإن المخاطرة بوضع أموال جديدة في المضاربات على أسعار الأسهم باتت محفوفة بالمخاطر.
ويلاحظ في هذا الصدد أن صناديق إدارة الثروات السيادية بدأت تتخارج من السوق الأميركي. وتتفادى المصارف الأميركية زيادة المخصصات للقروض والأصول الخطرة خلال العام الجاري التي بلغت أعلى مستوى لها خلال العقد الجاري.
على الصعيد الأوروبي، تبدو المصارف التجارية في وضع أسوأ كثيراً من نظيراتها الأميركية من حيث الصحة المالية وموازنات الميزانية. وحسب بيانات "سيتي غروب"، فإن المصارف الأوروبية تعاني من الفائدة السالبة، وانعدام صفقات الدمج بين الشركات التي تحقق المصاريف المربحة للقطاع المصرفي. كذلك فإن السوق الأميركي أفضل كثيراً من حيث فرص الربحية مقارنة بالسوق الأوروبي.
وعلى الرغم من أن لدى بنوك أوروبا رساميل كافية، فإن قيمتها السوقية تتراجع. وبينما تقدر القيمة السوقية لمصرف "جي بي مورغان" أكبر المصارف الأميركية بنحو 300 مليار دولار، فإن أكبر المصارف الأوروبية، وهو مصرف " أتش أس بي سي" البريطاني تقدر قيمته بنحو 88 مليار دولار. ولكن يلاحظ أن هذا المصرف يحقق 90% من دخله في آسيا وليس أوروبا، على الرغم من أن مركزه الرئيسي في العاصمة البريطانية لندن. وفي المقابل، فإن القيمة السوقية لمصرف "بي أن بي ـ باريبا" تقدر بنحو 54 مليار دولار.
واقترضت المصارف التجارية في منطقة اليورو مبالغ قياسية خلال الشهور الماضية، ضمن برنامج القروض الميسرة التي عرضها البنك المركزي الأوروبي لمكافحة التداعيات السالبة لجائحة كورونا.
وحسب إعلان البنك المركزي الأوروبي، اقترضت المصارف الأوروبية 1.31 تريليون يورو ضمن برنامج إعادة التمويل الميسّر الذي عُرض على القطاع المصرفي لدرء مخاوف نقص السيولة بسبب إغلاق الاقتصادات، وتوقف الأعمال التجارية في منطقة اليورو. وكان المركزي الأوروبي قد اضطر، خلال شهر إبريل/ نيسان الماضي، إلى الاقتراض من البنك المركزي الأميركي عبر برنامج "حساب تبادل العملات"، لتلبية حاجة بنوكه التجارية للدولارات.
وحسب بيانات اليورو، فإن أسهم المصارف الأوروبية خسرت نحو 40% من قيمتها، منذ 17 فبراير/ شباط وحتى نهاية شهر إبريل/ نيسان الماضي. وهي الفترة التي بدأ فيها تفشي الفيروس في إيطاليا بكثافة، ثم انتشر في باقي الدول الأوروبية. كذلك تواجه المصارف الأوروبية مخاطر عدم السداد في الديون، التي أُجِّلَت خدمتها بسبب جائحة كورونا التي تقدَّر قيمتها بنحو 360 مليار يورو (أي نحو 425 مليار دولار).
والسؤال المطروح في عالم الاستثمار يتمحور حول ما إذا كان المقترضون سيتمكنون من خدمة أقساط هذه القروض بعد نهاية فترة الإعفاء؟
ومن بين المخاطر الأخرى التي تواجه مصارف منطقة اليورو ضعف القطاع المصرفي في إيطاليا، ومخاوف استمرار الكساد الاقتصادي في بعض دول الجنوب الأوروبي وتداعياته على البنوك الفرنسية التي أقرضت شركات هذه الدول بكثافة قبل جائحة كورونا.
وكانت مصادر مصرفية قد قدرت لصحيفة "فاينانشيال تايمز" أن يصل إجمالي مخصصات المصارف الأوروبية لتغطية الديون الخطرة إلى 60 مليار دولار خلال العام الجاري.
وتعد البنوك الإيطالية واليونانية والإسبانية من كبار الخاسرين من أزمة "كوفيد-19". في المقابل، تقدَّر خسائر البنوك الأميركية بنحو مائة مليار دولار. ولكن يلاحظ أن الفارق بين القطاع المصرفي في أميركا وأوروبا، هو أن المصارف الأميركية تستطيع استعادة ربحيتها بسرعة بسبب حجم السيولة الضخم المتوافر لديها وحاجة الدول والشركات للدولار في أعقاب القضاء على الجائحة.