انفجرت هيئة العلماء المسلمين في لبنان، بعد سنتين ونيّف على تأسيسها. فالهيئة انطلقت في مايو/ أيار 2012 كإطار علمائي جامع يعبّر عن حالة سنية ملتزمة لا تقبل بعلمانية تيار المستقبل (الممثل السياسي الأول للطائفة السنية في لبنان)، ولا بتشدد بعض الرموز السنية كالشيخ أحمد الأسير في حينه أو حالة شادي المولوي وأسامة منصور، في شمالي لبنان، حالياً.
لعبت الهيئة طوال العامين الماضيين أدواراً متعددة على الصعيد الداخلي والسوري، فكانت في موقع المفاوض أحياناً، وقطع علماؤها الطرقات، أحياناً أخرى، للضغط.
كانت فاتحة مبادرات الهيئة مع إطلاق سراح السيدات المخطوفات ضمن عديد حملة زيارة المراقد الشيعية، التي اختطف لواء "عاصفة الشمال" السوري المعارض أعضاءها في مدينة أعزاز، شمالي سورية، عام 2012. كما لعبت الهيئة دوراً في التفاوض مع الشيخ أحمد الأسير في محاولة لوقف المعركة بين عناصره والجيش اللبناني في بلدة عبرا في صيدا، جنوبي لبنان، عام 2013.
ومع انتقال التوتر السوري إلى الحدود الشرقية مع لبنان، تردد اسم هيئة العلماء المسلمين خلال قطع طريق بيروت ـ دمشق عند نقطة المصنع الحدودية بوجه "صهاريج الموت"، التي نقلت مادة المازوت من مرفأ بيروت إلى مخازن النظام السوري في العام 2013. تعرّض علماء الهيئة للضرب وإطلاق الأعيرة المطاطية من قبل الجيش اللبناني الذي كُلف بفتح الطريق. ثم قطع علماء الهيئة طرقات محافظة البقاع "تضامناً مع بلدة عرسال"، شرقي لبنان، التي قطع أهالي البلدات المحيطة بها الطريق الوحيد المؤدي إليها بعد اتهام فعاليات في قرى مجاورة للعراسلة "بالسماح للمسلحين السوريين بإطلاق صواريخ من الجرود على القرى البقاعية الموالية لحزب الله".
وفي معركة عرسال بين الجيش اللبناني والمسلحين الاسلاميين في أغسطس/ آب الماضي، أدّت الهيئة دور الوسيط، ونجحت في إطلاق سراح عدد من العسكريين المختطفين دون مقابل. ثم أعلنت الهيئة عن وقف مساعيها إلى حين تلقيها "تكليفاً رسمياً من الحكومة اللبنانية بالتفاوض مع الخاطفين"، وهو ما لم يتم. وقد تعرّض أعضاء الهيئة لإطلاق نار مجهول المصدر حتى اللحظة أثناء إحدى زيارات التفاوض، ما أدى لإصابة رئيسها السابق الشيخ سالم الرافعي وانكفائه عن العمل العام.
وفي المعركة الأخيرة التي اندلعت الشهر الماضي في عدد من المناطق شمالي لبنان، لعبت الهيئة دور الوسيط بين المجموعات المسلحة الموالية لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، و"جبهة النصرة". وأعلنت الهيئة عن التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار في مدينة طرابلس، سرعان ما نفته مصادر عسكرية، فعبّر أحد أعضاء الهيئة عن الموقف بالتأكيد أن "الدولة تريد تصديرنا في مواجهة التطرف دون منحنا أوراق قوة لنفاوض بها"، والمفارقة حينها، أن وقف إطلاق النار طُبِّق. يطرح أعضاء الهيئة دوماً قضية توقيف حسام الصباغ في طرابلس "وهو صاحب الأيادي البيضاء في مدينته، وقد عمل على جمع الشباب السنّة حول هيئة العلماء ومنعهم من الانسياق خلف الدعوات المتطرفة"، بحسب أعضاء في الهيئة.
استقالة متوقعة
لم تمضِ أشهر قليلة على تولي رئيس دائرة الأوقاف في منطقة عكار، شمالي لبنان، الشيخ مالك جديدة، الرئاسة الدورية لهيئة العلماء المسلمين، حتى أعلن عن استقالته "المتوقعة" في بيان مفصّل، أمس الأربعاء. حمل بيان الشيخ جديدة العديد من الاتهامات لعلماء داخل الهيئة "بالارتهان السياسي والمالي لأطراف سياسية محلية وخارجية"، كما اتهم "السلفيين والجماعة الإسلامية (الجناح اللبناني للإخوان المسلمين)، بالهيمنة على قرار الهيئة ومحاولة استخدامها لأهداف سياسية".
تؤكد مصادر في هيئة العلماء، لـ"العربي الجديد"، أن استقالة جديدة متوقعة "في ظل عدم رضى الهيئة الإدارية عن أداء الشيخ خلال توليه الرئاسة الدورية"، من دون أن تنفي أيّاً من أسباب الاستقالة التي قدمها جديدة. وتؤكد المصادر أن "العلماء بحثوا عن مخرج قانوني لتنحية الشيخ جديدة عن الرئاسة، فتم تعديل النظام الداخلي وتقصير الولاية الدورية من سنة واحدة إلى ستة أشهر"، ما يعني عملياً إقصاء جديدة عن الرئاسة وانتخاب بديل له، وهو ما "استبقه جديدة بتسريع الاستقالة والمناورة بإعلان تأسيس كيان جديد لن يتجاوز حدود منطقة عكار"، بحسب المصادر العلمائية.
انتشر خبر استقالة جديدة بسرعة في أجواء البيئة السنية في لبنان، فوضعه بعض العلماء في إطار "اتفاق تيار المستقبل والمفتي الجديد على إنهاء دور هيئة العلماء"، في حين رأى البعض الآخر أن الاستقالة "نشرت غسيل الطائفة أمام العلن".
يشير مصدر إسلامي، في حديث لـ"العربي الجديد"، الى أن الاستقالة أتت لأسباب موضوعية وأخرى شخصية، "فالشيخ جديدة اشترط تنحية علماء آخرين من منطقته عن الهيئة قبل انضاممه إليها، ثم تراجع عن طلبه، قبل أن تتحول الخلافات الإدارية داخل الهيئة إلى خلافات شخصية بين العلماء النافذين والقضاة الشرعيين، ما أثّر سلباً على بعض قرارات الهيئة التي خرجت بأسلوب غير متوازن أحياناً". كما يعيب أعضاء الهيئة على جديدة "حسه الوطني الزائد، وانفتاحه على الأطراف السياسية المتعارضة من دون مراعاة لموقعه في الهيئة"، بحسب المصدر نفسه.
اختار الشيخ جديدة استقالة صاخبة تنهي مسيرته في هيئة العلماء المسلمين، فكان له ما أراد. لكن تزامن الاستقالة مع تهديدات أطلقها شادي المولوي، الموالي لجبهة النصرة، في شمال لبنان، لعدد من أعضاء الهيئة "بالتخاذل عن نصرة المجاهدين في معركة التبانة، شمالي لبنان، ضد الجيش الصليبي (اللبناني)"، تطرح تساؤلات عن دور الهيئة التي بات رؤساؤها السابقون بين مُغيّب ومُتهم بالارتهان ومُستقيل.