أرقام إيرانية مرعبة حول التوحّد

02 ابريل 2016
العلامات والأعراض تكون واضحة (Getty)
+ الخط -

في مبنى "جمعية مرض التوحّد في إيران" الواقع في أحد أحياء غرب العاصمة طهران، يبدو أنّ العائلات هنا باتت تعرف جيداً بعضها بعضاً، على خلفيّة زياراتها المتكررة هذا المكان. هنا، طفل يجلس بالقرب من أمه ساكناً هادئاً منتظراً دوره لدخول عيادة الطبيب أو المتخصص المشرف على حالته. وهناك، طفل آخر لا يستطيع الانتظار، ويكرّر كلمات غير مفهومة، فيما يصاب ثالث بنوبات غضب فجائية أحياناً.

ما يجمع هؤلاء الأطفال على اختلاف الأعراض التي يبدونها، هو عيشهم في عالمهم الخاص. وعلى كلّ واحد منا أن يبذل جهداً في محاولة فهم هذا العالم. هذه الجملة التي علقت على مدخل مقرّ الجمعية وداخل قاعاتها، تلخّص ما يحاول هؤلاء الأهل فعله في هذا المكان.

للسيّدة مهاجري طفل مصاب بالتوحّد يبلغ من العمر عشرة أعوام. تقول إن حالته جيدة نسبياً بالمقارنة بباقي الأطفال المصابين، وكان بالفعل واضحاً على الطفل الجالس بالقرب منها والذي كان يبتسم للآخرين بشكل دائم، وينتبه وينبّه أمه معه كلما قُرع جرس العيادة. تخبر: "شككت في إصابة ابني مذ كان في شهره التاسع، إذ لاحظت أنه لم يكن يصدر الأصوات ذاتها التي يصدرها الرضّع في مثل عمره. اعتقدت أنه كان يعاني من مشكلة في السمع، لكنني سرعان ما اكتشفت أنه يعاني من التوحّد. وبدأت بالتعرّف على أعراض المرض وآلية التعامل معه منذ ذاك الوقت، فتعلم الأهالي كيفية التعاطي مع أبنائهم هو النقطة الأهم في مسيرة العلاج الطويلة".

ومهاجري التي توضح لـ "العربي الجديد" أنّ ابنها ليس قادراً على نطق الأحرف والكلمات كالأطفال الآخرين في مثل سنه، تصرّ على جعله يتابع تعليمه في مدرسة عادية، فيما بعض العائلات تتخوف من تعرّض ابنها لمضايقات وبالتالي تحصره في عيادات ومراكز تخصصية لتبقيه بعيداً عن الآخرين. وتلفت إلى أنّ "ذلك يجعل الحالة أسوأ بالنسبة إلى أطفال كابني، لا يُعَدّون مصابين بتوحّد متقدم". من جهة ثانية، ترى أنّ وجوده في مدرسة ابتدائية عادية، "جعل المدرّسين والتلاميذ يتعرفون على التوحّد عن قرب. المجتمع الإيراني ما زال يجهل تفاصيل هذا المرض". وعلى الرغم من أنّ مدرّسه يعاني قليلاً معه في الصف، إلا أنّ طفلها يبقى على تماس دائم مع أطفال في مثل سنه، وقد لاحظت تحسناً في حالته بالفعل، "وهذا هو المطلوب".

تشدّد مهاجري على أنّ "التوعية ضرورية ومهمة، إذ ثمّة عائلات كثيرة لا سيما في القرى والأرياف، لا تعرف أصلاً ما هو التوحّد وتتعامل مع أولادها على أنهم متخلفون ذهنياً. هناك، لا مراكز تخصصية تقصدها للحصول على النصائح اللازمة، بالإضافة إلى قلة عدد هذه المراكز حتى في المدن الكبرى". كلام مهاجري الذي يبيّن أنها على دراية بالوضع، لا يختلف عن كلام آخرين يقصدون تلك الجمعية ويبدون أنهم يعرفون جيداً ما هو التوحّد وكيف يتعاطون مع أبنائهم المصابين به. لكنّ ذلك لا ينطبق على عائلات أخرى.


إلى ذلك، يتكررّ الحديث في بعض المواقع الإيرانية عن نسب عالية من الأطفال المصابين بالتوحّد في أرجاء البلاد. وقد نشر موقع وكالة "إيسنا" في وقت سابق نقلاً عن "مركز رعاية وتأهيل المعوّقين" أنّ دراسة لحصر أعداد المصابين بالتوحّد بين سنّ الثانية والخامسة، قيد الإنجاز في البلاد. وقد أفادت الوكالة ذاتها نقلاً عن الدكتورة، ليلا عطايي، وهي المسؤولة عن "مؤتمر التوحّد الوطني" الذي عقد في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أنّ نسبة الإصابة في إيران مرتفعة، إذ "يولد طفل واحد مصاب بالتوحّد من بين كلّ 70 إلى 80 طفلاً". أما موقع "سلامتيران"، فقد نقل عن رئيس "جمعية علاج النطق الرسمية"، أتابك وثوقي: "إنّ نسبة الإصابة بالتوحّد في العالم تتراوح بين واحد وأربعة في المائة، فيما أن النسبة في إيران تبلغ واحداً في المائة فقط".

على الرغم من الأرقام المتفاوتة، إلا أنّ المتخصصين يجمعون على ارتفاع النسب وعلى ضرورة إجراء مسح دقيق وشامل. تقول المتخصصة في "جمعيّة التوحّد في طهران"، بلقيس فيروزي، إنّ "تسجيل الحالات يعني بالضرورة تعرّف مزيد من العائلات على المرض". وتوضح لـ "العربي الجديد" أنّ الإحصاءات التي أجريت، حتى اللحظة، تشمل مناطق دون أخرى، مضيفة أنه بحسب دراساتها ومعلوماتها، فإنّ "النسبة الحقيقية قد تصل إلى طفل واحد مصاب بالتوحّد من بين كل 64 طفلاً. وهي نسبة مهولة بالفعل".

ترى فيروزي التي تابعت دراستها لتصبح متخصصة اجتماعية في مرض التوحّد، أنّ "العائلة تلعب خمسين في المائة من الدور الإيجابي لضمان تحسّن الطفل". هي من جهتها أمّ لتوأمَين مصابَين بالتوحّد، هما الآن في سنّ الشباب. وابناها هما سبب دخولها هذا المجال. بعدما تعرفت على التوحّد وساعدت ولدَيها، ها هي تقدّم، اليوم، خبرتها لمساعدة آخرين. وتخبر أنّ أحد الولدَين يعزف على البيانو بينما يعمل الآخر معها في الجمعية، فيطبع الرسائل الرسمية المخصصة لمراكز ومؤسسات أخرى. بالتالي، "على الأمّ والأب اللجوء إلى المراكز وتعلم آلية التعاطي مع طفلهما، لمساعدته في تخطي مشاكل هذا العالم".

وتلفت فيروزي، أيضاً، إلى "ضرورة أن يساعد المسؤولون والمعنيون في مهمة التوعية. على الأهل أن يعلموا أنّ ابنهم مصاب بالتوحّد، منذ أشهره الأولى، ليبدأ علاجه عند بلوغه العامَين". وتشرح أنّ "العلامات والأعراض تكون واضحة، والطفل لن يكون قادراً على التفاعل، ولن يكون نموّه وتقدّمه مثل غيره من الأطفال"، مشددة على أهميّة الكشف المبكر في مساعدة الأهل والطفل على حدّ سواء.

من جهة أخرى، تشكو فيروزي من أنه "إلى جانب ضعف التوعية، تعاني عائلات الأطفال المصابين بالتوحّد من ارتفاع تكاليف العلاج، ما يعني الحاجة إلى تأمين صحي. الجلسة الواحدة في بعض المراكز تكلف نحو خمسين دولاراً أميركياً، وبعض العائلات مضطرة إلى دفع مبالغ تضاهي 300 دولار شهرياً، وهو مبلغ ليس بقليل بالنسبة إلى عدد كبير من العائلات الإيرانية".

تحاول جمعيّة التوحّد في طهران الحصول على أكبر دعم حكومي ممكن، في الوقت الحالي، بحسب ما تقول مديرة الجمعية سعيدة غفاري. وتشير لـ "العربي الجديد" إلى أنّ "خطة أُرسلت إلى المؤسسات والمراكز المعنية، علّها تساعد في إحصاء عدد الحالات المصابة أولاً وتزيد من الوعي المجتمعي إزاء التوحد ثانياً. معرفة عدد الإصابات الدقيق، يعني مساعدة أكبر للأطفال وللعائلات". وعن انتشار الإصابات في مناطق دون أخرى، توضح غفاري أنّ "ثمّة دراسات أجريت في مدن تقع شمال إيران بالقرب من بحر قزوين، وأخرى جنوب البلاد. وقد لوحظ ارتفاع عدد الإصابات هناك بالمقارنة مع مناطق ثانية". تضيف أنّ "الوعي في تلك المدن أتى أعلى من غيره، وربّما تسجيل الأهل أطفالهم في المراكز التخصصية، هو ما يجعل الأعداد تبدو أعلى".

وتلفت غفاري إلى أنّ "عائلات عديدة تقطن في القرى، تتعامل مع طفلها المصاب بالتوحّد على أنه معوّق، ولا تعلم أصلاً ما هو التوحّد. وثمّة عائلات أخرى تقرّر الانزواء والابتعاد بطفلها عن الآخرين، خوفاً من نظرة المجتمع. هذا خطأ فادح، ومن هنا يبرز دور الجمعيات الخاصة". وتطالب بمساعدة الجمعية من خلال "مؤتمرات تستضيف خبراء من الخارج، للاستفادة من تجاربهم بما يصبّ في مصلحة البلاد". وتتحدّث عن خطة دعم تنوي رفعها قريباً أمام البرلمان الإيراني، "لعله يعتمدها وتتحوّل قانوناً. وهو ما يجعل الأطفال المتوحّدين تحت رعاية رسمية. لكنّ هذا مرهون أيضاً بجهود المعنيين".

دلالات