أخطر من "سايكس - بيكو"

20 مايو 2016
+ الخط -
قبل أيام، مرّت الذكرى المئوية الأولى لاتفاقية "سايكس - بيكو" البريطانية - الفرنسية، والتي قسمت تركة الدولة العثمانية في المشرق العربي، وتحديداً في منطقة "الهلال الخصيب" بين الدولتين الاستعماريتين الأوروبيتين، لتكون الاتفاقية إحدى مباضع التمزيق التي أعملت في جسد الأمة العربية. السادس عشر من مايو/ أيار 1916، تاريخ الاتفاقية السرية بين القوتين الاستعماريتين، لم يكن أحد أيام نذر الشؤم على هذه الأمة، وتركها نهباً لكل طامعٍ فحسب، بل إنه سيصبح، وعقوداً طويلة، ممتدة حتى اليوم، مقلباً أشربناه وأسكرنا به، بحيث أصبح كثيرون منا، نحن ضحايا مبضع التمزيق ذاك، أشد المدافعين عما فتقه، وأشد المعارضين لإعادة رتقه.
تمر الذكرى المئوية الأولى لأحد وجوه نكباتنا وتعبيراتها والمنطقة العربية، برمتها، اليوم، تعج بمخاضاتٍ عسيرةٍ من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، بشكلٍ يهدّد بتمزيق الجسد العربي، الممزق أصلاً، وشرذمته أكثر مما هو مشرذم، على أساس من خرائط جغرافية وعرقية وطائفية وقبلية جديدة. نرى مثل ملامح ذلك التمزيق القادم، لا قدر الله، في العراق، وسورية، واليمن، والسودان، وليبيا، والمغرب، ولا يستبعد أن يطاول دولاً عربية أخرى، تظن اليوم، أنها في منأى عن رياح التقسيم، في حين أن أحشاءها تحمل كثيراً من مكوناته المسمومة.
تَجَلٍّ آخر من تجليات اصطناع حدود وهمية متعسفة استعمارية لفضائنا العربي يتمثل في أن كثيرين منا، نحن العرب، بما في ذلك بين نخبنا، أصبحوا عامل ترسيخ منطق تفتيتنا إلى انتماءات فرعية، بل إنهم مقاومون لأية محاولاتٍ لإعادة إنتاج مفهوم "الأمة"، الذي هو في الأصل يؤطرنا، وينتشلنا من واقع الشرذمة. إنك تجد نخباً، اليوم، تزعم وصلاً بالعروبة والإسلام، تنافح عن "قدسية" حدود التقسيم الاستعماري، التي أعملت فينا، وتراهم يخلطون، عن قصدٍ أو من دونه، ما بين احترام الهويات الوطنية الفرعية، التي تشكلت مع الزمن، وأصبحت واقعاً، وما بين الرضوخ لإرادة ونوايا حامل مبضع التقسيم والتجزيء فينا، لإبقاء هذه الأمة في حالة تمزق وضعف وغياب أي وزن وقيمة لها.
لا يلتفت هؤلاء، أو أنهم لا يريدون الالتفات، إلى حقيقة أن تجربة الدولة القطرية العربية
أثبتت، إلى اليوم، فشلاً منقطع النظير، وعلى كل المستويات، اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً واجتماعياً. إن دولة عربية واحدة اليوم لا تملك مقومات الاستمرار وحدها، بناء على ثرواتها وإمكاناتها، أو معادلاتها الديموغرافية. جسدنا العربي بقوامه الراهن قابل للاختراق، بل هو مخترق، وهو قابل لمزيدٍ من التفتيت، بل إننا نحيا ذلك واقعا اليوم، أما تغوّل الآخرين علينا، فحدّث ولا حرج، عن إسرائيل، وأميركا، وروسيا، وإيران، وغيرهم كثيرون وكثيرون. ويكفي أن نُذَكِّرَ، هنا، أن آخرين يتحدثون ويناقشون مزيداً من تفتيت المفتت أصلاً، وكأننا غير موجودين، وكأنه لا كلمة لنا ولا قيمة. تسمع ذلك وتراه بَيِّناً ومن دون مواربة في العراق وسورية واليمن، بل إن مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم ينس أن يذكّرنا، قبل أيام، بمناسبة مرور مائة عام على اتفاقية سايكس - بيكو، أنها "ماتت، ونحن من نقرّر مصيرنا".
أما ثالثة الأثافي فتتمثل بانحدارنا، نحن العرب، وكثير من نخبنا، إلى قاع حضيضٍ آخر. إن لدينا القابلية اليوم للخضوع لمبضع تمزيقٍ آخر في هذا الجسد. في العراق وسورية، تسمع من ينادي منا، نحن أنفسنا ضحايا التقسيم وتداعياته، بضرورة إعادة رسم خرائط الدولتين على أسس طائفية وعرقية، بل هذا ما يتحدّث به علناً أميركان وروس وإيرانيون. ثمة "سُنَّةٌ عرب" لا يريدون أن يكونوا في دولةٍ واحدة مع "شيعة عرب"، وثمة "سُنَّةٌ عرب" لا يريدون أن يكونوا مع "علويين عرب"، وثمّة عرب وأكراد لا يريدون أن يكونوا ملتئمين في إطار واحد. كذلك الحال في اليمن، فكثيرون لا يريدون وحدةً بين الشمال والجنوب، وفي المغرب ثمّة من يريد قضم صحرائه واصطناع شعبٍ لها. وفي ليبيا، تسمع دعوات متزايدة لتقسيم البلد على أسس جهوية وقبلية، أما السودان والصومال، فتلكما حكاية أصبحت قديمة، بعد أن تمكّن المبضع من جسديهما، اللهم، إلا إذا أردت أن تتحدّث عن محاولات التقسيم الأخرى الجارية في السودان.
هكذا، وفي الوقت الذي يبحث فيه العالم عن تكتلاتٍ اقتصادية وأمنية، تجدنا، نحن العرب، نبحث عن المزيد من التمزق والشرذمة والتقسيم. لقد أفسدت "سايكس - بيكو" ومثيلاتها عقولنا ومنطقنا، وهذا أحد أوجه تجلياتها الأخرى. إننا، نحن العرب، كالسكارى اليوم، ترانا نتجرّع السُمَّ، علنا نعالج أمراضنا الكثيرة. ما لا يريد أن يفهمه كثيرون، هو أن إعادة تأسيس المنظومة العربية وإعادة سَكِّ مفهوم الأمة العربية، ليس ترفاً فكرياً، ولا هذياناً إيديولوجياً يطرحهما حالمون، بل هما أمران متعلقان بمصيرنا ومستقبلنا. بغير ذلك، ستأتي أجيالٌ بعدنا، تناقش بعد مائة عام أخرى، حقبة أخرى من حقب مزيدٍ من التقسيم والشرذمة، والدوس أكثر على كرامتنا، فالجسد المنهك، منعدم المناعة، لن يتوقف يوماً عن السقوط الحر في غياهب المزيد من أعماق الحضيض. ذلكم هو ما يبشّرنا به المدافعون عن إبقاء المقسم والمفتت كما هما، بزعم "الوطنية"، في حين أنهم لا يدركون، أو قل أنهم متواطئون، في الخلط ما بين "الوطنية" والتجزئة المفروضة علينا، لإبقاء هذا الجسد واهناً وعاجزاً عن الدفاع الذاتي.