أحنُّ لكعك أمي!

03 يونيو 2019
+ الخط -
لا أشك للحظة أن حرفة الحلواني أصبحت أحد أكثر مجالات العمل ربحية في مصر في آخر عشرين سنة، وذلك بالنظر لتضاعف أعداد محلات بيع الحلويات والمخبوزات وانتشار فروعها بشكل لا يدل إلا على جدوى تلك التجارة ورواجها.

وأتذكر أن عدد محلات الحلوانية المشهورين في الإسكندرية مثلا في الثمانينيات والتسعينيات كان لا يجاوز بحال أصابع اليدين. ولم تكن تجارة كعك العيد بمثل ما هي الآن من رواج بين الطبقات الوسطى وما دونها؛ إذ ظلت الكثيرات من نساء تلك الحقبة المباركة "نسبة إلى مبارك غالبا" يفتخرن بأنهن يخبزن كعكهن وبسكويتهن بالسمن والزبد الفلاحي الأصلي، ولا يسمحن للجاهز "الخيبان" ذاك بدخول الدار أبدا، حتى ولو كلفهن بلوغ ذلك الهدف النبيل التضحية بالعشر الأواخر للشهر الفضيل في العجن والنقش والخبز، ثم الرقاد بعدها طيلة أيام العيد بآلام الرقبة والديسك! وكان من المؤكد أن لذلك الهدف السامي تأثيره المباشر على شرف العائلة وصيتها بين العائلات.. أو هذا ما كان يبدو للمتابع.

ولم تكن أمي حفظها الله عجبا بين أمهات ذلك الزمن المبارك بحال. لكنها وللحق كانت أعقل في ما يتعلق بالكميات والنوعيات. وظني أنها كانت تعتمد بشكل كبير على ما سيصلنا من نفحات جدتي وخالاتي وزوجات أخوالي وأعمامي الكثيرة، والتي من ناحية كانت تفيض دوما عن احتياجنا، ومن ناحية أخرى كانت توفر غطاء تكتيكيا جيدا لأي أخطاء أو عيوب قد تظهر في كعكنا وتهدد بتقويض سمعة العائلة التي تعبنا في بنائها.


وكنا- في غير العيد- نتجاسر ونشتري كل حين نوعا من البسكويت الغربي ذي النكهات المميزة من أحد المحال الذي اشتهر بصناعته وعُرف بغلاء أسعاره. وكانت ماما، كأي أم مصرية صميمة، تمتعض عندما تعرف ثمن الكيلو، فتهون فورا من جودة البسكويت ومن طعمه، ثم تقوم بعملية حسابية عبقرية تقسم فيها المبلغ على ثمن الفرخة الطازجة، فيتضح أننا اشترينا بسكويتا بثمن أربع دجاجات سمينة مثلا، فتنبري في تقريعنا بما يستحقه سفهنا وطيشنا وعدم تقديرنا للنعمة، وتذيل ذلك بالجملة الختامية الشهيرة: "وده يرضي ربنا ده؟! حرام والله...حرااااام!".

فنأكل ما اشتريناه بعدها بغصة تأنيب الضمير، أو نتجاهل الغصة ونأكله هنيئا على أي حال!..

وفي أحد الأعوام، وأثناء مهرجان الكعك السنوي قبيل العيد، اقترح أحدنا أن نشتري البسكويت من متجر الكوكيز الغالي ذاك، فانتفضت أمي ورفضت بحسم، وجادلتنا طويلا في عادية ذلك النوع وإمكانية عمله في البيت بلا مجهود، وبأنها عجينة سهلة جدا، والسر كله يكمن في توزيع النكهات المختلفة بحيث نحصل على التنوع الذي ننخدع به في الجاهز، وما أبسطه من سر!وعندما تشككنا في إمكانية ذلك، تحدّتنا في أنها ستخبز وسنرى!

والحقيقة أن للقدر دائما حكمة عظيمة لا ندركها في حينها. فقد كان لهذا التحدي وتداعياته الصاخبة أثر درامي في تغيير رؤيتنا لقضية الكعك البيتي برمتها، ودخولنا بجراءة حقبة جديدة التفتنا فيها لمحلات الكعك الجاهز والبسكويت أبي أربع فرخات، ضاربين عرض الحائط بشرف خبيز العائلة وسمعتها الوطنية، ومشاركين وبقوة كعملاء في بيزنس الحلواني حفظه الله لمصر ولنساء مصر ولسمعة مصر..

لكن الإنصاف يحتم عليّ أن أعترف بأنني أصبحت أذكر بالخير كعك أمي وبسكويتها في مثل هذه الأيام. وأراجع نفسي أحيانا في ما يخص استسهال الجاهز وغض الطرف عن حميمية البيتي وجماله وتعبه و"ديسكه". بالذات وأنا أرى بذهول أسعار الكعك وهي تناطح الثلاثمائة جنيه للكيلو! فأجدني أنصرف من محل الحلواني وأنا أَقْسِم المبلغ العجيب على ثمن الدجاجة الواحدة فأتعجب وأمتعض.. تماما كما كانت تفعل ماما!

فأتذكر وأضحك وأنا أردد كلمات درويش:
وأجدني أحنّ "لكعك أمي" حفظها الله..
وأحنّ لجمعنا وضحكنا وجدالنا وصبانا..
وأحنّ لأعيادٍ طيبة كثيرة مضت..
ولا زال في الأعمار أعياد بإذن الله..
أو هكذا نتمنى..


كل عيد وأنتم بخير.
دلالات
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى