أحمد غصين (2/ 2): "لم أقصد محو سردية السوريين بالتصوير في الزبداني"

31 يناير 2020
أحمد غصين: فيلم مهزوم وعن الهزيمة (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

يتوغّل أحمد غصين في ذواتٍ وأرواح، لطرح تساؤلاتٍ عن العالم وانهياره ودماره، عبر خيبات أناس ومواجعهم. ومع أنّ "جدار الصوت" غير معروضٍ في لبنان، إلاّ أنّه يُثير سجالاً يتعلّق باختيار المخرج المدينة السورية الزبداني، المدمَّرة والمهجَّر أهلها الناجين من الموت، كـ"ديكور" لمشهدٍ أخير، يُهاجمه البعض لكونه، كما يقولون، ينفي سردية السوريين في مواجهتهم حرباً أسديّة، بينما ينفي غصين هذا كلّياً، في الجزء الثاني من حوار "العربي الجديد" معه:

تتحدّث عن الحالة دائماً. لكن، ماذا بعدها؟
كنتُ أحاول ألا تغلبني حالة "النجاة" أو "البقاء حيّاً" (Survive). كنتُ أعرف أنّ هذا مطبّ إيجابيّ، وأنّ لحظة دخول الجنود الإسرائيليين ستكسر كلّ شيء سابق. لكنْ، هناك ما هو أبعد من هذا أيضاً. لذا، هناك حيرة تظهر في الشخصيّة الأساسية في النهاية. الوقوف أمام الدمار الهائل. كلّ شيء في داخله لم يعد كما كان، ولن يعود إلى ما كان عليه. الوقوف والتأمّل، وعدم معرفة ما الذي يُمكن فعله الآن. ما الذي يحدث بعد توقّف الكاميرا عن التصوير، لا أثناء التصوير. هذا كان همّي الأساسيّ، الذي كنتُ أبحث فيه وألتقطه وأصوّره.

طالما أنّك ذكرت "الدمار الهائل"، أودّ سؤالك: لماذا اخترت أن تُصوِّر مَشاهد الدمار في الزبداني السورية، التي تعرّضت للتدمير، وتمّ تهجير أبنائها أثناء الحرب في سورية؟
أولاً، دعني أقول لكَ شيئاً يتعلّق بالعنوان. باللغة الإنكليزية، اخترتُ All This Victory، وبالعربية "جدار الصوت"، فالترجمة العربية للعنوان الإنكليزي، "كلّ هذا الانتصار"، ثقيلة على السمع واللفظ العربيين. هناك الجدار، وهناك الصوت. لحظة سماع هذا الصوت، "خرق الطائرة (لجدار الصوت) كأنّه قصف"، يجعلك تعجز عن التفكير لبرهة. هذا ينطبق على الفيلم، أيْ ردّة الفعل الأولى. شخصياتنا هي في ردّة الفعل الأولى على دخول الجنود. أيضاً، للصوت (رنا عيد) حيّز كبير في الفيلم.

سياسياً، العنوان بالإنكليزية يعني لي كثيراً. هناك أكثر من مستوى للفيلم: أولاً، الروائي Narratif، المنكسر لحساب المستوى الشاعريّ والحالة واللغة السينمائية التي أحاول صُنعها. أي أنّي لست مهتمّاً كثيراً بالحدوتة. ثانياً، هناك السياسي. أعتبر الفيلم إكمالاً للشغل الذي أشتغله: نقد مفهوم الانتصار والمنتصر. لديّ خطّ يتمثّل بتفكيك هذا المفهوم ونقده، تمّ تبيانه أكثر فأكثر الآن على أيّ حال. الخطّ السياسي يتمثّل بإدانة خطاب المنتصر على دمارنا وجراحنا، وتفكيك الخطاب ونقده. هذان التفكيك والنقد بدأتهما في أفلامٍ سابقة لي. المنتصر الذي أفكِّك خطابه وأنقده هو نفسه الذي كان في حرب 2006، وفي حرب سورية أيضاً، رغم أنّ الفيلم لا يأتي على ذكر سورية وحربها نهائياً.

المشهد الأخير في "جدار الصوت" لن يجعلك تفكّر بحرب 2006. أيّ أنّك تصل إلى المشهد الأخير وأنتَ لم تعد تفكّر بهذه الحرب، بل إنّه (المشهد الأخير) يُنسيك إياها، كي تذهب أكثر إلى خرابنا ودمارنا، وإلى سحق الفرد. العدو (إسرائيل) "تحصيل حاصل"، أي أنّه عدو ونحن نعرف أنّه عدو ونتعامل معه على أنّه عدو. لذا، لم أظهره في الفيلم، لأنّ المسألة في مكانٍ آخر. الشغل كلّه كان على نقد من وعدنا دائماً بانتصارات مجيدة، وهو الذي أعلن النصر الإلهي في اليوم التالي لانتهاء حرب 2006. أشخاص كبار في السنّ يُصدّقون أنّ هناك من سينقذهم. أحدهم عاجزٌ عن الكلام يُذكّرنا بأمجاده الماضية، وآخر بَلَعته الميثولوجيا والهلوسة.

يذهب شابٌ إلى قريته، فيكتشف عالماً مُدمَّراً. لذا، المشهد الأخير يجب أنْ يكون مثل القيامة، "أبوكاليبس". مع هذا النوع من التفكير، ذهبتُ إلى الزبداني في سورية لتصوير ما أرغب فيه، أي على أساس أنّ الخط النقدي واحد، وأنّ ما أفكّكه من خطاب هنا أفكّكه هناك أيضاً. في "جينيريك" النهاية، ذكرتُ أنّي صوّرت في الزبداني. أنا لم أخْفِ هذا الأمر نهائياً. كما أنّي لا أقصد أبداً ونهائياً محو سردية السوريين. هنا، أودّ الاعتذار ممن انزعج من حكاية التصوير، حتّى قبل مشاهدته الفيلم. أعتذر بسبب هذا الكمّ الكبير من اللغط الدائر حول هذا المشهد، قبل مشاهدة الفيلم.

هناك أسئلة أطرحها حول المنتصر والدمار، والفيلم ليس مثقلاً بحرب 2006. أطرح أسئلة عنّا نحن في عالمٍ يُدمَّر حولنا. كلّ حرب هي سحق للناجين، وفاتحة للمحو والعجز. هذا ليس لأقول إنّ الحروب تتشابه بسياقاتها. أنا معنيّ بخطابٍ يعتبر أنّ أقلّ ضربة هو نصرٌ، وإنْ كان نصراً ماحقاً أحياناً، فهذا النصر يمارس تغييباً للعقل في منطقة بكاملها. هذا ما أنتقده.

لكن، ألم يكن ممكناً تفادي التصوير في الزبداني، والاستعاضة عن ذلك تقنياً وفنياً وإنتاجياً؟
كنتُ أريد مشهد دمار كبير كما لو أنّ القيامة قائمة على مروان (كريم غصن)، الذي انسحق وانسحقت خياراته كلّها، مثلنا جميعاً. هذا معتادٌ في السينما دائماً. طبعاً، هناك شيء له علاقة بالإنتاج. بناء ديكور لمكانٍ كهذا مُكلف إنتاجياً للغاية. كما أنّه يستحيل على الديكور، مهما كان عظيماً، أنْ يكون واقعياً، أو حتّى أنْ يكون قريباً منه. اللغط حول عنف الصورة؟ أنا لا أحبّ العنف في الصورة، بمعنى أنّ هناك إشكالية دائمة في تصوير الدمار والحروب. إشكالية أنّ أيّ تصوير لعنفٍ يُصيب الصورة أيضاً، فتصبح الصورة مُعنّفة بحدّ ذاتها، وفي رحلتها الأخلاقية إشكالية دائمة. هذا المشهد أربكني. أخذتُ المكان كما هو. ثم هناك لقطة ينظر فيها مروان إلى الأعلى، تذكيراً بالبراميل المتساقطة على الناس.

رغم هذا، هناك التباس كبير بين اختيار مكانٍ مُدمَّر كمشهدٍ في فيلمٍ لا علاقة له بالمكان الذي تُصوّره، وبين ما حصل في المكان نفسه من تدمير وتهجير وموت، خصوصاً أنّ المنطقة قريبة جداً من لبنان، ولبنانيون كثيرون معنيّون بواقع المنطقة وحروبها، وما لهذا كلّه من علاقات متداخلة بين اللبنانيين والسوريين في المستويات كلّها.
أعتبرُ أنّ حلّ هذا الالتباس موجود في الفيلم، لا خارجه. هذا هو اللغط بيني وبين الآخرين. استخدمتُ الصورة لنقد من دمّر المنطقة. السينما إيحاءات أيضاً، وهذا الفيلم ليس وثائقياً. هناك نقّاد كتبوا عن المستوى السياسي تحديداً، وكان واضحاً لهم النقد المطروح في الفيلم. آخرون شاهدوه ولم يُعلّقوا على هذا المشهد، بل اهتمّوا بشيء آخر، بالشخصيات ومصيرها، وبالحدوتة. طبيعيٌّ أنْ كلّ ناقد يقرأ الفيلم بطريقة مختلفة.

حسناً. ماذا عن علاقتك الشخصية بحرب تموز 2006 تحديداً.
لم تعد علاقتي الشخصية بالحرب مهمّة. أنا ابن تلك المنطقة الجنوبية. منزلي تهدّم أثناءها. لذا، كنتُ أتساءل: هل أضع حرب تموز 2006 في فيلمي أو لا. في الشرق الأوسط، هناك حروب كثيرة حصلت وتحصل وستحصل. لنكن صريحين: لدينا شيء حسّاس أو سلبيّ عن أفلام الحرب في منطقتنا. أنْ نحكي عن الحروب، ومنطقتنا مليئة بالحروب. علاقتي بالحرب قوية، لكن ليس هذا دافعي إلى اختيارها للفيلم. الدافع مختلف: عدم الأمل. غير صحيح أنّ هناك أملاً، هناك فقط محاولة عيش. أقول هذا بشكل إيجابيّ. يعني، يُمكن أن تُكمِل حياتك ومساراتك.

مروان مقتنع أنّ عليه مغادرة البلد، لكنه لم يفعل. تقع حروب وتحدث توترات ويتردّى الوضع الاقتصادي، إلخ. هذه مسائل تدفع إلى القول بالرحيل والمغادرة والهجرة. هذا هو الحلّ. لكنّك لا ترحل ولا تغادر ولا تهاجر. ربما لهذا يحدث تصادم أو اشتباك مع الآباء. لماذا؟ ليس فقط في إطار "قتل الأب". كلا. هو ضياع شعور. هذا الأب كان يحلم، والحلم يُسبِّب حرباً كارثية على الجيل اللاحق لجيله. لكن الأب وأبناء جيله كانوا يحلمون بالتغيير. الآن، لا يوجد ترف الحلم بتغيير معيّن. مثلاً، تُشارك في تظاهرة ضد عدم وجود حلّ جذري للنفايات في لبنان. لكنك تُدرك سلفاً أنّ لا شيء سيحصل أو يتغيّر، ومع هذا تُشارك وتُطالب. هذا هو الوضع. على كل حال، هذا فيلم مهزوم، وعن الهزيمة في الوقت نفسه. شخصياً، تغيّر كلّ هذا عندي بعد ثورة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019. عندي شعور أنّنا نؤسّس مرحلةً مختلفةً تماماً، لأوّل مرّة.

لنتحدّث قليلاً عن الممثلين، وعن اختيارك لهم وعلاقتك بهم. الشخصية الأساسية يؤدّيها شقيقك كرم. هو يمثّل للمرة الأولى. عادل شاهين وبطرس روحانا وعصام بو خالد قادمون من المسرح، رغم أن لبعضهم حضوراً سينمائياً ما. سحر منقارة لم تُمثّل سابقاً. لعل فلافيا بشارة وحدها من تمرّس بالسينما.
كرم غصين رافقني منذ بدايات اشتغالاتي السينمائية. صوّر أفلامي السابقة. يعرف كلّ شيء عنّي وعن هواجسي وأفكاري وكيفية عملي. كما أنّه يُشبه الشخصية الأساسية التي كتبتها، وفيها شيء منّي ومنه أيضاً. التعاون مع ممثل محترف لتأدية هذه الشخصية ربما يعفيني من أمورٍ كثيرة، لكنّي فضّلت شخصاً يفهم عليّ ويعيش معي ويرافقني في أفلامي كلّها.

بعيداً عن كونه شقيقي، كرم شخص هادئ وغير منفعل. ربما هو مرتبك، ومع هذا وصل إلى مطرحٍ ينتمي إليه، لكنّه غريب عنه. المنطقة منطقته، لكنه لم يعد يعرف ما إذا كانت تنتمي إليه أم لا، أو إذا كان ينتمي هو إليها أم لا.

باختصار، لاحقت شعوري أثناء "الكاستينغ". عادل شاهين وبطرس روحانا أعرفهما منذ دراستي المسرح في الجامعة قبل سنين طويلة. هما أستاذان لي. اعتبرتُ أنّهما يُشبهان كثيراً الشخصيتين اللتين يؤدّيانها على الشاشة، قاسم ونجيب. أما سحر، ومنذ لحظة دخولها الأول إلى غرفة "الكاستينغ"، أبهرتني وخطفتني مباشرة. لم أكن أعرفها أبداً. فلافيا محترفة سينمائياً. أعرفها في أفلامٍ سابقة لها.

عصام بو خالد ممثّل محترف، له باع طويل في رسم شخصيات مختلفة. مثّل أدواراً عديدة ومختلفة. خدم الشخصية بشكل ممتاز. شخصيته لم تكن محبوبة في السيناريو، فمحمد هو الشخص الذي لا تحبّه. هنا تكمن أهمية عصام: خلق هذه الشخصية، وإضفاء بُعْدٍ آخر، يجعلك تتساءل عن مصير هذه الشخصية. حتّى إنّك تبرّر لها ما تفعله، فتصبح المسألة أبعد من ثنائية "حبّ ـ كراهية". الكيمياء بين الممثلين ضرورية للغاية. هذا ما شعرتُ به عندما اخترتُ الممثلين. الكيمياء، وأيضاً أنْ يخدم كلُّ واحد منهم الشخصية التي يؤدّيها.

للأسف، خسرنا عادل شاهين (توفّي في 1 يوليو/ تموز 2018 ـ المحرّر)، الممثل والأستاذ العزيز. كانت لديه طاقة إيجابية رائعة في البلاتوه، وله فضل كبير عليّ. أدى دوراً رائعاً. ممثل خسرته السينما اللبنانية. للأسف، لم يتمكّن من مُشاهدة الفيلم، ورحيله غصّة لي ولأسرة "جدار الصوت".

دلالات
المساهمون