خلال دورةٍ تدريبية في مجال "تقنيات الإلقاء الإذاعي والتلفزيوني" قبل سنواتٍ، كنّا نجد صعوبةً كبيرةً في جعل زميلٍ من مدينة الجزائر ينطق كلمة "ثقافة" على النحو الذي يُفتَرض أن تُنطق به. كان ينطقها "تقافة"... تخرج الكلمة هكذا بالتاء، رغم محاولاته الدؤوبة.
ليست الكلمة اختراعاً جديداً في قاموس العربية يُنسَب إلى المتدرّب الذي بدا مقتنعاً تماماً بأنْ ليس في نطقه أيُّ خلل؛ فأهل الجزائر العاصمة ينطقونها على النحو نفسه.
ولذلك تفسيرٌ لغوي وتاريخي نقرأه في "معجم العاميّة الدزيرية بلسان جزائري مبين" (2013)؛ إذ يذكر الباحث مهدي برّاشد أن "الدزيريّين" – نسبة إلى دزاير، الاسم العاميّ لمدينة الجزائر - ورغم أنهم تداولوا إلى بُعَيد الاستقلال، أي حتّى السبعينيات، قاموساً لغوياً موغلاً في القدم والبداوة، فإنهم نزعوا إلى كلّ استعمالٍ لغوي من شأنه أن يُبعِد عنهم صفة البداوة اللصيقة بهذه اللغة القديمة، وأن يُؤكّدَ أنهم أهل مدنيّة.
لذلك، عمدوا إلى التصغير كمظهرٍ من مظاهر الظرف (فقالوا الطويّر في الحديث عن الطائر مثلاً)، وتفادوا استعمال الأصوات المفخّمة، فأبدلوا الطاء والثاء تاءً، والضاد والظاء والذال دالاً، والصاد سيناً، إلّا ما كان ضرورياً الإبقاءُ عليه في شكله الأصلي.
في غير ما بلدٍ عربي، سنجد أمثلةً مشابهةً للاحتفاظ بـ "الأحرف العاميّة" خلال الانتقال بالكلمة من استخدامها العاميّ إلى الفصيح. في المغرب مثلاً، تُنطق الألف مفخّمةً ربّما تأثّراً بالحرف الفرنسي (A) الذي يُنطق "آ". وفي مصر، يبدو الإصرار على نطق الجيم في الفصحى جيماً مصريةً أشبه بالموقف الثابت الذي لا يخضع إلى المراجعة.
والغريب أن هذه الحالة لا تتوقّف عند المستوى الصوتي، بل تصل إلى الكتابة أيضاً؛ إذ تسلّل حرفا السين والزاي، كمُقابلَين عاميَّين للثاء والذال في العامية المصرية، فصرنا نقرأ عباراتٍ مثل "يستسني" (يستثني) و"يزرف" (يذرف)، ليس في مواقع التواصل الاجتماعي فحسب، بل في الصحف والكتب أيضاً.
وفي بلاد الشام، التي يُعتَبر أهلها الأفضلَ في العربية حين يتعلّق الأمر بالأداء الصوتي خصوصاً، سنلمس ظواهر مشابهةً أيضاً؛ فالقاف تتحوّل في اللهجة اللبنانية إلى حرفٍ قريب من الكاف، فتنتهي كلمةُ "ثقافة" إلى "ثكافة".
وفي اللهجة السورية، يختفي الجيم العربي المفخَّم الذي يُقابله (G) في الإنجليزية، ليحلّ مكانَه الجيم المخفّف الذي يقابله (J). واللافت أنه يُصبح حرفاً شمسياً في الاستخدام الصوتي الفصيح، فيصير "الجولان المحتلّ"، على سبيل المثال، "أجّولان المحتل"، وهكذا دواليك.
والطريف أن هذا الحرف يُصبح بمثابة علامةٍ للهويّة السورية في بلدٍ مثل تركيا التي يُقيم فيها ملايين السوريّين منذ 2011؛ فحتّى الذين تمكّنوا من إتقان اللغة التركية بشكلٍ جيّد، يُخفقون في تغيير الجيم "السوري"، وهو حرفٌ لا يُستخدم في التركية إلّا حين يتعلّق الأمر بكلماتٍ قادمةٍ من الفرنسية أو الإنكليزية، مثل "Jilet" التي تعني شفرة.
بالتأكيد، ما كان النطق، في الأمثلة السابقة، ليُثير اعتراضاً لولا أنه يأتي في سياق العربية الفصيحة؛ إذ أن احتفاظ المتحدّث بالأحرف "العاميّة" في الكلمة وهو ينتقل بها إلى الفصحى، لا يخلِق فحسب مفردةً جديدة وغير صحيحة من الناحية المعجمية، بل يُؤذي المستمِع أيضاً، خصوصاً حين تُسافر تلك الأحرف إلى وسائل إعلامٍ "دولية" يُفتَرض أنها موجّهة إلى سائر الناطقين بلغة الضاد.