جوّ من الاستقرار والهدوء عمّ الداخل الإيراني ولوحظ خلال عام أعقب التوصل للاتفاق النووي مع الدول الست الكبرى في شهر يوليو/تموز من العام الماضي، والذي دخل حيز التنفيذ العملي في يناير/كانون الثاني 2016. الإيرانيون يشعرون أن شبح الحرب تبدد أو على الأقل ابتعد عن البلاد، بعد سنوات من الحظر والعقوبات وتهديدات الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.
صحيح أنه لا يزال من المبكر بعد تلمس النتائج العملية للاتفاق، لا سيما أن تطبيق قرار إلغاء العقوبات عن إيران لم ينفذ بشكله الكامل بعد، حسب تصريحات رسمية إيرانية، لكن تأثير الاتفاق النووي على الداخل الإيراني كان على شكل تبعات تسببت باستقرار نفسي، كما يصف البعض.
في الوقت نفسه، حقق الاتفاق النووي شعوراً بالانتصار للسياسة الإيرانية للحكومة الحالية والتي يقودها الرئيس، حسن روحاني. لقد استطاعت البلاد استعادة حضورها في المحافل الدولية وعادت لتجلس وتناقش قضايا إقليمية ودولية مع اللاعبين الفاعلين في العالم. وهذا أمر يعني المسؤولين الإيرانيين بشكل مباشر وكبير، في الوقت الراهن، وهو ما انعكس بوضوح على الداخل.
بعد التوصل للاتفاق مباشرة، وحتى من دون انتظار دخوله حيز التنفيذ العملي، بدأت الانتقادات العديدة تطاوله. وتجمع عدد من الطلاب المنتمين لقوات التعبئة الإيرانية المعروفة باسم "الباسيج" مرات عدة اعتراضاً على الاتفاق، كانت إحداها أمام مجلس الشورى الإسلامي لمطالبته بتدقيق نص الاتفاق الموقع مع الغرب جيداً، داعين للتعامل بشفافية مع الأمر ودراسة كل نقاطه، التي رأوا أنها تقدم تنازلات مصيرية.
وتزامنت هذه التحركات مع عقد اجتماعات داخل البرلمان بغية تشكيل لجنة الإشراف على الاتفاق النووي، والتي تتكون من 15 نائباً. بعد دراسة تفاصيل ما يسمى بمشروع "التطبيق الحكومي المشروط للاتفاق النووي"، صوت غالبية النواب في هذه اللجنة إيجاباً عليه في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2015، وذلك بعد إعطاء المشروع صفة العاجل والفوري. هكذا حصل روحاني وحكومته على الضوء الأخضر لتطبيق الاتفاق، تحت إشراف اللجنة العليا للأمن القومي، مع ضرورة التقيد بشروط عدة، من بينها فرض رقابة صارمة على كل أطراف الاتفاق. ويتضمن هذا المشروع مادة تفرض على الحكومة استئناف النشاط النووي وتخصيب اليورانيوم بنسب عالية بحال نقض الطرف المقابل لتعهداته، كما يسمح بإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية على نشاط طهران النووي وفق القوانين المتعارف عليها دولياً، مع ضرورة حفظ الأسرار الأمنية، وهي المهمة التي تقع على عاتق الحكومة.
خلال عام من الاتفاق النووي، تحدث المسؤولون الإيرانيون ومنهم مسؤولون في الحكومة عن عدم تنفيذ التعهدات الغربية كاملة، لا سيما تلك التي تقع على عاتق واشنطن، وترتبط برفع عقوبات التحويلات المالية. وتحدثت طهران عن محاولات لمصادرة أموالها المفرج عنها، تحت عنوان "دفع تعويضات لأقارب ضحايا الإرهاب" والذي من المفترض أن تتحمل إيران مسؤوليته، بحسب المحكمة الأميركية العليا. لكن تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية تؤكد، في المقابل، أن طهران تنفذ تعهداتها، كما أن وزير الخارجية الإيراني، رئيس الوفد المفاوض، محمد جواد ظريف، يقدم تقريره مرة كل ثلاثة أشهر حول آلية وعملية سير تطبيق الاتفاق.
وتفادياً لإثارة الجدل في الداخل، صوت نواب البرلمان الإيراني في مشروعهم هذا على مادة تنص على عدم إيقاف تطوير القدرات التسليحية الدفاعية للبلاد، وذلك بعد إبقاء الغرب على العقوبات التي تمنعها من الحصول على أسلحة غير دفاعية وتجهيزات مزدوجة الأغراض لخمس سنوات، أو على صواريخ باليستية قد تستخدم لأغراض نووية لثماني سنوات مقبلة.
واختبر الحرس الثوري صاروخين باليستيين في شهر مارس/آذار الماضي، وقبلها بمدة اختبر صاروخ "عماد"، المحلي الصنع والبالغ مداه 1700 كيلومتر، وعرض شريطاً يصور مقاطع من منصات ومدن صاروخية تحت الأرض، وكلها إجراءات جاءت للتأكيد على أن التوصل للاتفاق النووي لا يعني تغير محاور السياسة الداخلية، ولدرء الدخول في ملفات خلافية أخرى مع الغرب وعلى رأسها المنظومة الصاروخية.
ويبدو أن هذا الملف تحول إلى خط أحمر في سياسة إيران الداخلية، والتي ترسمها الأطراف المنتمية للأحزاب والتيارات السياسية، لا سيما بعد تصريحات صدرت عن المرشد الأعلى علي خامنئي، ترتبط بذات الأمر. وأشارت تصريحات المسؤولين الإيرانيين، برمتها، إلى أن تطوير الصواريخ لا علاقة له بالملف النووي أساساً، وبأن الاتفاق يتضمن نقاطاً تمنع طهران من امتلاك صواريخ قابلة لحمل رؤوس نووية، مؤكدين أنها لا تمتلكها ولا تريدها أصلاً، بحسب تعبير مسؤولي الداخل.
هذه المسألة تصب لصالح حكومة الاعتدال أيضاً، التي قيل إنها فاوضت على هذا الملف، لكن تصريحات مسؤوليها نفت الأمر، بل وأكدت على ضرورة تطوير المنظومة التسليحية للبلاد، كما نجحت بتحويل التوقيع على البروتوكول الإضافي من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية إلى بند طوعي في نص الاتفاق النووي، لا إبقائه كبند إجباري. ويعدّ التصويت عليه أساساً من صلاحيات البرلمان لا الحكومة، وهو ما يسمح لطهران بعدم قبول تفتيش بعض مواقعها العسكرية أو تفتيشها بشروط أو اللجوء للجنة دولية إذا ما اقتضى الأمر ذلك، مما يعني أن سياسة الداخل الإيراني لا تزال ثابتة في هذا الشأن.
بعيداً عن هذه المسألة، يعمل المسؤولون في الداخل على التركيز على إنجازات النووي المستمرة على حد تعبيرهم. ويفضل المعنيون في هيئة الطاقة الذرية وفي الحكومة برئاسة روحاني، نفي كل الانتقادات التي طاولتهم بأنهم وافقوا على اتفاق أدى لتعليق النووي الإيراني بعد التطور الذي أحرزه، مقابل مكاسب بسيطة، وهي وجهة نظر عدد من قادة التيار المحافظ.
وأوقفت طهران تخصيب اليورانيوم بنسب عالية ولها الحق في استمرار التخصيب بنسبة 3.67 بالمائة، وصدّرت الكميات الفائضة من اليوارنيوم العالي التخصيب إلى روسيا، وباعت الماء الثقيل المنتج في مفاعل آراك للولايات المتحدة الأميركية، وفككت معظم أجهزة الطرد المركزي المسؤولة عن عمليات التخصيب في منشأتي فردو ونتانز، حيث سمح لفردو بالاحتفاظ بعدد قليل من الأجهزة، لا يتجاوز 1044 طرداً، وتحولت لمنشأة للبحث والتحقيق العلمي والنووي. ومن الممكن الإبقاء على خمسة آلاف جهاز في نتانز لاستخدامها في التخصيب. وما تبقى من الأجهزة التي يقدر عددها بـ 19 ألفاً تقريباً، فلا يتوجب على إيران استخدامها أو حقن الغاز فيها إلا تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
كذلك، أعلنت هيئة الطاقة الذرية الإيرانية عن تطوير برنامجها النووي المرتبط بالسلامة الطبية، فضلاً عن تطويرها لمجمعات وقود غير مدمرة ستستخدم لمفاعلاتها النووية ومنها لوح وقود نووي لمفاعل آراك المطور، والذي سيحقن فيه بعد إعادة تصميمه من الداخل بموجب ذات الاتفاق النووي.
وكان روحاني افتتح، عن بعد، مركزاً نووياً جديداً في منطقة انارك شمال شرقي أصفهان وسط البلاد، وهو المركز المتخصص بالإشراف على النفايات النووية والمشعة، قائلاً حينها إن بلاده لا تشكل تهديداً على أحد، وترى أن أمنها من أمن دول المنطقة والجيران، وهي رسالة موجهة للخارج وللداخل على حد سواء، لا سيما أن الإيرانيين مهتمون كثيراً بلمس نتائج الاتفاق الحقيقية.