آلة التشبيه

10 ابريل 2017
غيلان الصفدي/ سورية
+ الخط -

في الليل تتحوّل القرية الطرابلسية الممتدّة على سفح الجبل إلى مجموعة أضواء متناثرة بشكل عشوائي. في نوبات الحراسة الليلية المتكرّرة صارت هذه الصفحة السوداء التي تلونها بقع الضوء الأصفر، الموزعة كيفما اتفق، تشبه قريتي الأصلية أكثر فأكثر.

مجموعة الأضوية تلك في منتصف اللوحة كانت "حارة الوسط"، حيث توجد حنفية طويلة عامة على جانب الطريق أمام المدرسة. ونسق الأضوية ذاك هو "الشارع"، الذي كان يمكنني إذا مررت فيه أن أبحث عن سعادة غامضة معلّقة كفستان على حبل غسيل معدني فوق سطح بيت البنت التي وهبتها قلبي دون رجعة. والكوكبة الصغيرة من الأضوية المعزولة إلى يمين اللوحة هي "الدولود"، ذلك النبع العذب من البشر، الذين ما أن تتفتح أجنحتهم حتى يطيروا في كل اتجاه، مفضلين الابتعاد عن المصدر حتى ولو باتجاه السجون أو السموات.

يخدعني النهار فيبدو سفح الجبل غريباً عني، وتتبخر قريتي وأصبح بعيداً عن مكاني. أنشغل فيما يمليه علي التحاقي بالمعسكر من تدريبات ودروس. ولكن يشغلني التشبيه أكثر.

في النهار يعسر على آلة التشبيه أن تعمل بسهولة عملها في الليل، الليل يخفف الفوارق: طريقة الملازم قاهر في شرح سبل تفخيخ الطرود البريدية تشبه طريقة أستاذنا للعلوم في تشريح الضفدع.

الملازم قاهر الذي ذهب إلى كوبا وهو يبحث عن طريق إلى فلسطين، أخبرنا أننا سنقابل غداً الفلسطيني الذي يتحول التراب بين يديه إلى بارود. كان أبو أحمد في أواسط العمر، يستغرق في شرح عملية اغتيال مفترضة كما يستغرق مطرب في الغناء. لم تدهشني أفكاره الغريبة بقدر ما أدهشني شبهه الكبير بأهم صياد سمك في قريتنا. حتى إبهام أبي أحمد كانت مبتورة كإبهام صبحي، وسنه الأمامية مكسورة مثل سن صبحي.

راح يشرح أبو أحمد كيف توضع القنبلة بعد نزع مسمار الأمان في كأس ثم توضع الكأس وراء باب الشخص المقصود قتله، فإذا فتح الباب سوف تسقط الكأس وتنكسر ويتحرر أمان القنبلة وتنفجر، وسوف يقتل الهدف "فيش مجال". بينما هو يشرح هذا كنت أسمع صوت صبحي وأرى حركاته وهو يتباهى بطريقته في "ضرب الديناميت" لاصطياد السمك، وجرأته في تقصير الفتيل إلى حد أن ينفجر الضرب لحظة دخوله الماء، لكنه انفجر مرة قبل أن يغادر يده فطار إبهامه، يروي صبحي هذا وهو يضحك ساخراً.

صلعة الرائد عمر تشبه صلعة خالي، وجبينه كجبينه، ولكنه حين يغضب وترتجف ذقنه ويبدأ بإطلاق الرصاص الحي بين أرجلنا من الإم سكستين التي لا تفارق يده، فإنه يصبح الرائد عمر الذي لا شبيه له، والذي لقلبه شكل خارطة فلسطين كما كان يؤكد.

هذا الجدول الصغير الذي نغسل وجوهنا منه صباحاً، يشبه قليلاً ساقية "عين الجديدة"، ينقصه شجرة الزيزفون الكبيرة، وفروع الريحان التي تغمس وريقاتها في الماء وتمشي مع التيار حتى يشدها أصلها، فتعود طائرة إلى وضعها الأول لتبدأ رحلة أخرى مع التيار.

آلة التشبيه لا تكل، تريد أن تغسل الغربة عن المكان والوجوه، لتخلق لك مكاناً أليفاً. لا تهدأ، تحذف وتضيف وتعدل، تقسو هنا وتتنازل هناك، تفلح هنا وتفشل هناك، إلى أن يعود الليل ويفرش أمامي من جديد قريتي الأصلية، كي أسند ذقني على سبطانة البارودة الروسية وأبدأ بتفقد البيوت. الأضوية اليوم أقل. العائلات التي تذهب للسهر عند عائلات أخرى تطفئ أضواء بيتها. العائلات المتعبة تنام باكراً أيضاً.

انتهى المعسكر قبل أن يحسم الصراع الدائم بين آلة التشبيه والغربة. عدت إلى مكاني وعادت آلة التشبيه إلى هجوعها، فلا غربة ولا غرباء تطردهم أو تطوّعهم.
بعد عشرات السنين، تنهض آلة التشبيه من جديد. في قاعة الانتظار، لا يكف الرجل والمرأة المجاوران عن الحديث بصوت مسموع ولكن بلغة غريبة. تنهض آلة التشبيه ولكنها تعجز عن التشبيه. غير أن شيئاً بريئاً وساذجاً في داخلك يتبرع، مع ذلك، كي يقنعك بأن هذا الرطن الثقيل ما هو إلا سحابة عابرة، فتقتنع، وتنتظر أن يستحي المتحدثان بعد كل هذا الرطن ويبدأا التحدث بالعربية.

المهمة أصعب بكثير هنا. المسافات بعيدة والفوارق كبيرة، أكبر من أن يبددها الليل. تتعثر آلة التشبيه في غسل غربة المكان، فتتراجع إلى تطويع الجزئيات. هذا المرج الأخضر بزهور الأقحوان الصغيرة فيه، يشبه تماماً قطعة من "المرجة"، البستان الذي كنت تحب أن تقضي أماسيك فيه. وأشجار الحور البعيدة تلك تشبه صف الحور على طول ساقية القرية .. الخ.

غير أن المشابهات الجزئية تذوب في الغربة الأعم. تخبو مجدداً آلة التشبيه، وتهزم أمام آلة الاعتياد. تعتاد على اللاتشابه. ولكن فجأة، وأنت تسير عائداً إلى بيتك الغريب، تلمح أخاك يسير أمامك. قامته المعتدلة، ومشيته المرنة التي ورثها عن أمك، وشعره العسلي الخفيف. تبطئ السير حتى تتأمله أطول فترة ممكنة. تريد للحظات أن تعيد صياغة عموم المكان لينسجم مع هذا التشابه العابر، قبل أن يقرر الشبيه الاستدارة وتهشيم الهوية المتخيلة.

المساهمون