آفاق العلاقات السعودية ــ الصينية: الاقتصاد أولاً... ودائماً

14 سبتمبر 2016
العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وبكين بدأت في 1990(لينتاو تشانغ/Getty)
+ الخط -
في ثمانينيات القرن الماضي، أبرمت السعودية صفقة مع الصين، اشترت بموجبها صواريخ صينية متوسطة المدى وقادرة على حمل رؤوس نووية. عُرفت الصفقة باسم "رياح الشرق"، وشكلت محطة بارزة في تاريخ العلاقات بين البلدين، وبدأت بعدها الدعوات تتوالى وتتكرر، سعودياً وخليجياً، إلى "التوجه شرقاً" و"التحالف مع الصين"، خصوصاً كلما تعرضت العلاقات السعودية-الأميركية لهزّة ما. بيد أن هذه الدعوات، لم تكن قادرة على تجاوز الإطار الإعلامي والتحول إلى أجندة سياسية حقيقية، قابلة للتطبيق. والاعتبارات التي حالت دون ذلك متعددة. يتعلق بعضها بالصين وبعضها بالسعودية، وبطبيعة العلاقات والتحالفات في المنطقة.

وهناك عدة اعتبارات لا يمكن تجاهلها في الحديث عن أي تطور للعلاقات السعودية-الصينية. أولها أن العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين، بدأت متأخرة جداً، في عام 1990، في الوقت الذي كانت فيه الرياض تملك علاقات واسعة مع تايوان، استمرت لأربعة عقود، ومتحالفة مع الولايات المتحدة الأميركية. كما أن السعودية كانت تنظر إلى الصين كدولة عدوة، أو على الأقل، مكروهة، لأسباب تتجاوز الشأن السياسي. ويتحدث مراقبون عن كراهية إيديولوجية بسبب تبني بكين للفكر الشيوعي، في حين كانت الرياض تضيق الخناق على الشخصيات والمجموعات ذات التوجهات الشيوعية والقومية، وتعتبرهم مناهضين لنظام الحكم في البلاد.

تأخُّر إقامة علاقات دبلوماسية مع الصين، في مقابل وجود علاقات سعودية-أميركية متجذرة، يقارب عمرها المائة عام، جعل فكرة "التوجه شرقاً" أصعب مما تبدو عليه. والرياض كانت ولا تزال تعتبر الولايات المتحدة حليفاً بشكل يتجاوز الاختلافات، التي تحدث بين الحين والآخر، مع الإدارة الأميركية. والعلاقة بين الدولتين تتجاوز، بالنسبة إلى الرياض، تفاصيل توجهات الإدارات الأميركية المتعاقبة. ولا يبدو أن واشنطن تنوي التقليل من قيمة علاقتها، لا سيما الأمنية في مواجهة الإرهاب، مع الجانب السعودي. إنه معطى ثابت على الرغم من توجهات إدارة الرئيس الأميركي الحالي، باراك أوباما، الذي يتردد كثيراً في وصف السعودية كحليف، ويلمح إلى أنها "صديق" أو أقل من ذلك حتى.

الدعوات المتكررة للتحالف مع الصين، والتي تنطلق من خلفية إشراك هذا البلد بحل الأزمات السياسية والعسكرية في المنطقة، تتجاهل في الواقع أن الصين لا تزال تطرح نفسها بوصفها قوة اقتصادية وليس باعتبارها قوة عسكرية وسياسية عالمية، بمعنى أن الصين، على الرغم من كونها إحدى الدول العظمى، لا تبادر سياسياً، وتتراوح سياساتها الخارجية بين الانكفاء أو العمل في ظل الآخرين. ويظهر هذا جلياً، على سبيل المثال، في الموقف الصيني من الثورة السورية، والذي يمكن تلخيصه باعتباره صدى للموقف الروسي، لا سيما حيال قرارات مجلس الأمن.

النمو الاقتصادي الهائل في الصين لم يحدث إلا خلال العقدين الماضيين. حافظت بكين على نمو في الناتج المحلي، يتراوح ما بين 6 و10 بالمائة. إلا أن بروز الصين كقوة اقتصادية عالمية لم يُترجم حتى الآن، على شكل حضور سياسي وعسكري. ومن المستبعد أن تبرز بكين كفاعل سياسي عالمي، خلال السنوات القليلة المقبلة، كما توحي مبادرتها السياسية الأخيرة.

طرحت الصين خلال السنوات القليلة الماضية، مبادرات اقتصادية، في مشاريع تستهدف منطقة "أوراسيا" لإعادة إحياء طريق الحرير الاقتصادي، لصناعة طرق حديثة، تربط الصين بأوروبا، على أساس شراكة إيرانية - هندية - روسية. يضاف إليها مبادرة "الحزام والطريق" التي وجهها الرئيس الصيني، في عام 2013، إلى العالم العربي، لإعادة إحياء "طريق الحرير" الاقتصادي. هذه الاستراتيجية الصينية، والتي تُلخص ببناء السياسة استناداً إلى الاقتصاد، وليس العكس، لا تريد أن تتورط في أكثر الصراعات العسكرية والسياسية الأكثر تعقيداً في العالم، أي صراعات المنطقة العربية. وحرص الصين على تجنب أي تورط كهذا يأخذ في الحسبان خصوصاً واقع تبدل التحالفات والعداوات بشكل سريع بين الأطراف المعنية بصراعات المنطقة، الصراعات العربية - العربية، وتلك القائمة مع إيران وإسرائيل، والحضور التركي، والصراع مع الأكراد... وطالما أن بكين تستطيع أن تجد لبضائعها موطئ قدم في المنطقة، دون الدخول في عداء صريح مع أي من هذه الأطراف، من غير المتوقع أن تبادر إلى التحالف مع طرف ضد الآخر.

في هذا السياق، تعتبر إيران دولة أساسية لمشاريع الصين الاقتصادية، لا سيما في مشروع "طريق الحرير للقرن الواحد والعشرين" مع الهند وروسيا. في المقابل، نمت العلاقات السعودية-الصينية بصورة كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية، حتى أصبحت المملكة أهم مصدري النفط إلى الصين. كما أن الصين أصبحت أكبر شريك اقتصادي للسعودية، الأمر الذي شدد عليه وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، أخيراً، في محاضرته التي ألقاها بجامعة بكين.

عوائق ثقافية
تنقسم المنطقة العربية تاريخياً بين التأثيرات الثقافية السوفيتية-الروسية والتأثيرات الأميركية الغربية، دون أي حضور حقيقي للصين حتى الآن. وافتتحت الصين مركزها الثقافي في القاهرة، إحدى أهم العواصم العربية، في 2002، الخطوة التي يصفها مراقبون بأنها "متأخرة جداً" للبدء في بناء تواصل ثقافي عربي-صيني.

على المستوى التعليمي، لا يبدو أن التواصل العربي-الصيني قادر على تجاوز العلاقات مع الولايات المتحدة. في الوقت الذي أرسلت فيه السعودية عشرات الآلاف من الطلاب للدراسة في الجامعات الأميركية، حتى تجاوز عدد السعوديين هناك المائة ألف، من الطلاب وعائلاتهم، لم يتجاوز عدد السعوديين المرسلين إلى الصين، للدراسة فيها، ألفي طالب.

هذا النقص في التواصل الثقافي والتعليمي يتأثر بالصعوبات اللغوية وقلة المبادرين للتخصص باللغة والثقافة الصينية في العالم العربي. وهو عامل لا يمكن تجاهله ويساهم في فرض صعوبات إضافية، غير الصعوبات العسكرية، لبناء تحالف متين وطويل الأمد بين السعودية والصين. فهناك جهل ثقافي متبادل، يجعل بناء علاقات ترقى إلى مستوى التحالف، أمر غير وارد، في المدى المنظور على الأقل.

أزمة "أقليات"
وتتخوف الصين من التأثيرات الخارجية على سكانها. وعلى الرغم من عددهم الهائل، الذي يتجاوز المليار وثلاثمائة مليون نسمة، إلا أن الحكومة الصينية تحاول أن تتحكم بالمعلومات التي يتلقونها. وتقوم لهذه الغاية، بالتحكم في محتوى مواقع الإنترنت، كما صنعت السلطات مواقع بديلة عن شبكات التواصل الاجتماعي الأميركية، كـ"فيسبوك" و"تويتر" و"يوتويب"، في خطوات لعزل الصينيين عن التأثيرات الخارجية، قدر الإمكان. ويُعتقد أن هذه السياسات ناتجة عن خشية الحكومة الصينية من تنامي الانتقادات، التي توجه إلى سياستها، على المستوى الداخلي، مما قد يتحول مع الوقت إلى احتجاجات سياسية، تقود ربما إلى تفكك الحزب الشيوعي الحاكم.

لذلك، تعلن الصين تبنيها سياسات واضحة ضد التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وضد منح الأقليات أية حقوق سياسية. وهذا الأمر يشكل، بحسب مراقبين، انعكاساً لسياستها الداخلية الصارمة التي تسلب الأقليات حقوقها، وعلى رأسها أقلية الأيغور المسلمة. كما أن مسألة انفصال تايوان تضيف عاملاً آخر، يجعل الصين تعلن أنها تتبنى سياسات محافظة، ضد تغيير الحكومات، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، ومحاولة تعميق العلاقات بين مختلف دول العالم، عن طريق الاقتصاد، لا عبر بناء القواعد العسكرية والتدخلات السياسية.

على الضفة الأخرى، وإنْ كانت سياسات "عدم التدخل"، ودعم الأنظمة السياسية الحاكمة، وبناء العلاقات السياسية على أسس اقتصادية، تناسب دول الخليج العربي لا سيما السعودية، إلا أن هذه الدول تجد نفسها في صراع مباشر مع إيران، مما يعني أن أية علاقات "تحالف" مع الصين يجب أن تتضمن دعم دول الخليج في مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة، والتي ترى فيه السعودية الخطر الأول الذي يتهدد المنطقة، ويتجاوز حتى مشكلة الإرهاب، إذ تعتبر الرياض أن هذه المشكلة ناتجة عن زعزعة إيران استقرار دول المنطقة، كما يكرر الساسة السعوديون أخيراً. لكن ما قد تشترطه الرياض يبدو مستحيلاً، نظراً لأهمية إيران في الاستراتيجية الصينية تجاه منطقة "أوراسيا".

انطلاقاً من ذلك، من المستبعد أن تضحي بكين بعلاقتها مع طهران لتدخل في صراع سياسي، سيكلفها اقتصادياً، ويعطل خططها التنموية الكبرى في المنطقة، دون أن يعود عليها بأية فائدة تذكر. وفوق كل ذلك، هي لا ترى في إيران تهديداً لها، بل شريكاً اقتصادياً، لا سيما مع تمتع الأخيرة بعلاقات جيدة مع روسيا، التي تقاسم بكين الكثير من وجهات النظر تجاه المنطقة العربية.
المساهمون