آري أستر "يضرب" ثانية: التجريب بالرعب

18 أكتوبر 2019
بيو: أداء رائع في مراحل مختلفة (جيم سبيلمان/ وايرإيمدج)
+ الخط -
في الأعوام الأخيرة، أصبحت أكبر أزمة تعانيها السينما في هوليوود متمثّلة في تشابه الأفلام بعضها ببعض. هناك نمط معين للسرد والبناء القصصي والبصري، تجيده أعمالٌ من دون أخرى، لكن المتفرّج يشعر في النهاية بأنّه يشاهد الفيلم نفسه كلّ مرة، من دون مساحة ابتكار أو تجريب أو اكتشاف مختلف للسينما. 

من خارج هذا السرب، يأتي المخرج الشاب آري آستر، الذي أبهر النقّاد والجمهور، في العام الماضي، بباكورة أعماله Hereditary، ذات اللغة السينمائية المفاجئة تمامًا، قبل تأكيد فيلمه الثاني Midsommar، هذا العام، أنّ الأمر ليس مجرّد صدفة، وأنّه يُطوّر تلك اللغة بمفردات بصرية وسردية محدّدة. ولا مبالغة في القول إنّها الأجرأ والأكثر تجريبًا في هوليوود اليوم. يزيد من قيمتها أنّها تأتي في قلب السينما التجارية، مع نوع جماهيري كالرعب.

يبدأ الفيلم بربع ساعة تأسيسية، مُقبضة للغاية، تكتشف فيها المراهقة داني (فلورنس بيو) أنّ أختها قتلت والديهما، ثم انتحرت. يعتقد المتفرّج أنّ الحكاية ستكون عن تبعات ذلك، بشكل مباشر، لكن الحادثة الكبرى لا تمثّل أكثر من أرضية الصدمة والمرض النفسي للشخصية الرئيسية، التي ستصاحبنا بعد ذلك مع البداية الحقيقية للأحداث، بذهابها مع حبيبها كريستيان (جاك راينور) وأصدقائه في رحلة صيفية، في منطقة ريفية في السويد.

في البداية، تبدو الأمور حالمة وجميلة، في مساحات شاسعة من الأخضر. لا يُعكّر صفو هذا سوى كوابيس داني بأختها، التي تزيد حدَّتها المخدرات المنتشرة في المكان، قبل انقلاب كلّ شيء، مع مفاجأة المجموعة بطقوس غريبة لأهل المكان. طقوس تبدأ بتحطيم وجه عجوزين في السبعين من عمرهما، ثم حرق جسديهما، قبل أن تزداد حدّة وغرابة ورعبًا، لتمسَّ كل واحد منهم بشكل مباشر، وتحوّل عطلتهم إلى كابوس.

التشابهات بين فيلمي آري آستر كثيرة، إلى درجة تجعل المسألة لغةً سينمائية، لا مجرّد مصادفة. فهما ينتميان إلى نوع "الرعب"، وتدور أحداثهما على خلفية صدمة نفسية، مرتبطة بوفاة مُفزعة لأحد أفراد العائلة. كما أنّهما يتّخذان من الـ Cult والمعتقدات والممارسات الدينية الشاذّة والغريبة والعنيفة جوهرًا لأحداثهما، ويجعلان المتفرّج ـ لفترة طويلة ـ لا يشعر بالارتياح إزاء ما يحدث، قبل أن تنفجر الأمور فجأة، وبلا هوادة.

حتّى على المستوى البصري، فإن لآري آستر بصمات يمكن تتبّعها، وإدراك أن الفيلمين يقف وراءهما المخرج نفسه، من دون معلومة مسبقة، ليس فقط في جرأة استخدام العنف الصادم أو المشاهد الجنسية، بل في الإيقاع الداخلي للأحداث، وفي لقطات أيقونية، كاللقطة الواسعة جدًا، وظهور الشخصيات كدمى، المستخدمة كلّها في فيلميه.

أمّا المختلف والمقدَّر جدًا، الذي يفعله أيضًا في Midsommar، فيكمن في التناقض الضخم بين "الشكل" الحالم للمكان الريفي، الذي تدور فيه الأحداث، و"المحتوى" الدموي والمرعب، الذي نراه فيه. هناك لقطات ومَشاهد في جديده يمكن ـ بعزلها عن سياقها ـ تصوّر أنّه فيلم كوميديا رومانسية، أو دراما عائلية هادئة. لكن، ما وراء ذلك، هناك لا ارتياح كاملاً، وأجواء مُقبضة تكشف عن دمويّتها ببطء. في الحقيقة، هذا خيار أصعب مما فعله في Hereditary، الذي دارت أحداثه في أجواء ليلية في المنازل، وبألوان مُساعدة على خلق هويته.

آري آستر يستفيد أيضًا، مرة أخرى، من ممثليه، مستخرجًا منهم طاقة جبّارة على المستوى التجسيدي. وكما فعل مع توني كوليت العام الماضي، التي اتفق معظم النقّاد على استحقاقها ترشيحًا لـ"أوسكار"، فإن الكلام نفسه ينطبق على الممثلة فلورنس بيو (22 عامًا)، التي تقدّم أداءً رائعًا في المراحل المختلفة من الفيلم، بدءًا من العبء النفسي للحادثة العائلية البشعة، مرورًا بمحاولة التعافي والاندماج مع المكان والمجموعة، ومداراة نوبات الفزع، وصولاً إلى التعبير عن الرعب الشديد مما يحدث، ونهاية بالاستسلام (أو التحرّر) في تتابع النهاية.

يندر أنْ يشاهد المرء فيلمًا هوليووديًا يفاجئه حاليًا. لكن آري آستر يفعلها مجدّدًا، بإنجازه أحد أفضل أفلام صيف 2019، وأكثرها دهشة على الإطلاق.
المساهمون