آب الأحمر
يستحق شهر أغسطس/ آب لقب "آب الأحمر" بجدارة، ففيه حدثت حوادثُ مدلهماتٌ أراقت الدماء وأفنت الأرواح. مر علينا فيه خمس مجازر في ثلاثة بلدانٍ عربية في أربع سنوات مختلفة. ففي الرابع منه، الجاري، فوجئنا بالإنفجار المهول في مرفأ بيروت، والذي أودى بحياة مائتي روحٍ بشريةٍ تقريبًا، كما جرح مئات وأدّى إلى فقد آخرين، وتسبب في تلفيات شديدة، ومشاهد صادمة مفزعة لبيروتيين كانوا في لحظات وادعةٍ. تواترت الأخبار عن الأسباب التجارية البريئة لوجود شحنة نترات أمونيوم في المرفأ، نسيها الإهمال والفساد هناك ست سنوات متصلة، حتى انفجرت. وقد لا يعجب المرء أن يحدث هذا في بيروت العاصمة ذات التاريخ الأحمر والحرب الأهلية.
في الرابع عشر من أغسطس/ آب 2013، حدثت مجزرة ميدان رابعة الدامية في القاهرة، وفيها أريقت دماء مئات من المصريين في مشاهد دامية وحشية، لم يتصوّر أحد أن تحدث في مصر. وبعدها بيومين، حدثت في منطقة رمسيس المجزرة مرة أخرى، حين خرجت مسيراتٌ غاضبة حزينة على الذي جرى في ميدان رابعة، تجوب شوارع القاهرة منطلقةً من جنائز الشهداء في المساجد وحتى مسجد الفتح في رمسيس، فأُطلقت النيران وتلوّنت دماء الشوارع بالأحمر لتحدث "رابعة" مرة ثانية. ثم بعدها بيومين، حدثت مجزرة سيارة الترحيلات التي قتلت 36 معتقلاً ممن كانوا في ميدان رابعة، في مشاهد اختناق شديدة الألم.
في 14 أغسطس 2013، حدثت مجزرة ميدان رابعة الدامية في القاهرة، وفيها أريقت دماء مئات من المصريين في مشاهد دامية وحشية
ظلّت آثار مذبحة ميدان رابعة العدوية ماثلةً خمس سنوات أخرى بعدها، حين حُكِم بالإعدام على 75 معارضا في يوليو/ تموز 2018 بالإعدام، إلى جانب سبع قضايا أخرى، ينظر فيها القضاء إلى متهمين باتهامات قتلٍ عمد وتدمير ممتلكات ومقاومة سلطات. كان ممّن حُكم عليهم بالإعدام عصام العريان الذي اختاره الله إلى جواره وهو في السجن يوم 13 أغسطس/ آب الجاري، أي قبل ذكرى "رابعة" بيومٍ. وقد مرّت الذكرى (السابعة) على مواقع التواصل الاجتماعي باهتة خافتة، فلم يتذكّر مأساتها سوى بعض الصحف وبعض المهتمين، ولم نسمع عن شهادات جديدة أو معلومات إضافية، كما الحال في السنوات السبع الماضية. وعلى الرغم من ذلك، ستظلّ تلك المجزرة في الذاكرة واحدة من أسوأ المجازر ذات اليوم الواحد في التاريخ العربي الحديث.
وفي سورية، البلد العربي الأكبر نصيبًا من المجازر والمذابح في وقتنا المعاصر، ستفاجئنا "مجزرة الشعيطات" في 15 أغسطس/ آب 2015، والتي ارتكبها ما عُرِف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وكانت الشعيطات عشيرةً تسكن في ثلاث قرى في ريف دير الزور، حاولت التصدّي لمسلحي التنظيم، والاحتفاظ بالسيطرة على مناطقها ضد تعدياته. واستمر التصدي عامًا من منتصف 2014 إلى منتصف 2015 حتى قضى "داعش" على العشيرة بقتل الرجال البالغين، وتهجير العشيرة خارج البلاد وتدمير البيوت. تقول إحدى نساء العشيرة التي سمح لها التنظيم بدخول القرية بعد انتهاء القتال بالكامل، وسماح التنظيم لبعض أفراد العشيرة بزيارة قراهم: "دخلنا إلى قريتنا غرانيج بعد أن ذبح فيها داعش 300 رجل من العشيرة، ملأت رائحة الموت المكان. معظم الضحايا قتلوا ذبحًا بعد أن رُبطت أيديهم خف ظهورهم ثمّ ألقوا في قنوات الصرف الصحّي". ثمّ خرجت الصور المتوحشة عبر الإعلام، لتفزعنا في ذلك الوقت فزعة شديدة.
في 20 أغسطس 2012 مجزرة داريا الكبرى، واستمرت أسبوعًا. قتل فيها أكثر من 500 شخص
وفي 20 أغسطس 2012 مجزرة داريا الكبرى، والتي استمرت أسبوعًا. قتل فيها أكثر من 500 داراني خلال سلسلة مجازر، أكبرها في مسجد سليمان الداراني. حاصرت"الفرقة الرابعة" مدينة داريا وقطعت الكهرباء، ثم قصفت المدينة واقتحمتها، وارتكبت عدة مجازر مروّعة. يقول طارق جابر، أحد الشهود: "يوم الجمعة 24 أغسطس طاف فيه الموت على بيوت داريا وحاراتها، فمن تجاوزه القتل لسهو المجرم لم تفته أمواج الرعب الأسود لتسحبه إلى قاع العجز والقهر". ثمّ حوصرت المدينة حصارًا تامًا أربع سنوات حتى تهجير من تبقى من أهل المدينة في الحافلات الخضراء في 26 أغسطس/ آب 2016.
وفي 21 أغسطس عام 2013 ، وبينما كنا نحاول أن نفيق من هول مجزرة رابعة في مصر، تصل إلينا صور ومرئيات مجزرة السلاح الكيميائي على الغوطة الشرقية. كان ذلك بعد عام من مجزرة داريا في الغوطة الغربية، حين كان النظام السوري يحاول التخلص من الغوطتين في أقرب وقت ممكن. أطلق النظام غاز السارين، وهو من الغازات المحرّم استعمالها، فقتل من أهل الغوطة 1400 مدني منهم 400 طفل. وقد أثارت هذه المجزرة تعاطف العالم مع الشعب السوري، إذ شوهد الأطفال يختنقون في مشاهد مفزعة. أثار القتل باستخدام السلاح الكيميائي تنديدًا أكبر بكثيرٍ من القتل باستخدام الأسلحة، فندّدت بالمجزرة جامعة الدول العربية التي لم تندّد بأخرى. وعلى الرغم من أنّ الإدارة الأميركية صرّحت، في حينه، بأنّ استخدام السلاح الكيميائي خطٌ أحمر، وإلا تعرّض النظام لضربة عسكرية، لكن هذا النظام انتهك ذلك الخط، ولم تنفذ واشنطن تهديدها، وتوصلت إلى اتفاق مع روسيا على نزع السلاح الكيميائي تدريجيًا من النظام. ولكن ثبت استخدامه مرات أخرى بعد ذلك في خان شيخون وغيرها في غير أغسطس الذي سيظل يذكرنا بمجازر مروّعة، تركت آثارًا لا تمّحى من الذاكرة.