"يوم الأرض" في السينما الفلسطينية

27 مارس 2016
من "يوم الأرض" (غالب شعث، 1978)
+ الخط -

في العام 2006، أي بعد ثلاثين سنة على أحداثه الدامية، قرّرت "وزارة المعارف" الإسرائيلية إدراج "يوم الأرض" (30/ 03/ 1976) في مناهج تعليم الطلاب العرب.

لم يكن الأمر نتاج سياسة عقلانية أفضت بالحكومة الإسرائيلية إلى الإقرار بالواقع والاعتراف به، بل محاولة لتفريغ "يوم الأرض" من جوهره، ومعناه، ومن دلالاته؛ من ارتباط هذا اليوم (الزمان)، بسيرة الأرض (المكان)، وارتباطهما بالفلسطيني (الإنسان)، وبالتالي نقض السياق الذي يمثّل "يوم الأرض" واحداً من أهمّ ذراه، والانتهاء من مقتضياته.

يلتقط الفيلم الوثائقي "جنغا 48" للمخرجة علا طبري (77 دقيقة، 2008)، هذا الأمر، ويجعله أحد أهمّ المحاور خلال بحثه في واقع الفلسطينيين الباقين على أراضيهم المحتلة منذ العام 1948.

يدرك "جنغا 48" أن المعرفة الحقيقية والواعية بما جرى "يوم الأرض" في تناقص وتضاؤل، ليس بسبب عزوف الجيل الشاب عن الاهتمام بالقضايا الوطنية والقومية، ومعرفة تاريخهم القريب والبعيد، ولكن أيضاً نتاج سياسة تعليمية، تستهدف استكمال مصادرة الأرض بتشويه الذاكرة والمعرفة والثقافة والمخيلة والرواية، إلى حدّ جعل "يوم الأرض" لا يعدو أن يكون "عيد غرس الأشجار"!

يقول أحد الناشطين في "لجنة الدفاع عن الأراضي"، إن محاولات مصادرة قرابة 40 من الأراضي العربية الفلسطينية جرت بحجة "الخريطة الهيكلية"، هذه التي يراها أسلوباً وحيلةً لمصادرة المزيد من الأراضي. برفقة بطلتيه اليافعتين؛ ورد وعدن ضاهر، يتحوّل وثائقي "جنغا 48"، بأسئلته واستجواباته واستقصاءاته، سيرة "بحث عن يوم الأرض، والهوية، والعرب الموجودين داخل الدولة"، ويعمّر الأمل عندما يقول أحد الفلسطينيين: "يمكن ليوم الأرض أن يرجع بأشكال مختلفة".


استعادة "يوم الأرض"
أن يحلم أحدٌ ما باستعادة "يوم الأرض"، الآن وبعد أربعين سنة تماماً، فهذا يكشف الأهمية التي يأخذها هذا "اليوم" في حياة الفلسطينيين، وفي سياق نضالهم نحو تحقيق ذواتهم، وبلورة هويتهم، وتعزيز وجودهم على أرضهم.

"يوم" تحوّل منعطفاً في التاريخ الفلسطيني الحديث، يفصل ما بين زمنين؛ قبله وبعده، تماماً كما تفصل "النكبة" بين ما قبلها وبعدها، وكذلك يوم انزاح الحكم العسكري عن صدر من يلذّ لبعضهم اعتبارهم "الأقلية الأكثر استكانة في العالم"، فكان "يوم الأرض" ردّهم العملي، وصرختهم العالية، ومحطة أساسية في الانطلاق نحو التعبير الذاتي.

لم تتأخّر السينما الفلسطينية في التعامل مع حدث بهذا الحجم، فكان فيلم "يوم الأرض"، للمخرج غالب شعث (38 دقيقة، 1978)، بعد أقلّ من عامين على وقائع "يوم الأرض"، في الثلاثين من مارس/آذار 1976، مع الانتباه إلى الصعوبات والمعيقات التي كانت تقف حينذاك حاجزاً عصياً في طريق التواصل ما بين الداخل والخارج الذي كان مركز الفعل الفلسطيني، حينها.

الصعوبة الفائقة في الحصول على المادة البصرية من داخل فلسطين المحتلة، دفعت إلى الاتفاق مع مصورين ألمانيين، للانتقال إلى الداخل الفلسطيني، وتصوير المادة البصرية التي سيقوم عليها الفيلم، وتولّي المخرج قيس الزبيدي مهمة المونتاج، بنسج هذه المواد وتوليفها، لتقديم رواية بصرية فلسطينية للمقدّمات، ومن ثم المجريات، وأخيراً النتائج، بما فيها سقوط 6 شهداء، وعشرات الجرحى، في قرى: عرابة وسخنين ودير حنا، وما رافقها من تحرّكات في القرى والبلدات والمدن العربية.


ما حدث كان عدواناً صريحاً
أهمية فيلم "يوم الأرض"، الوثائقي المتوسط الطول، أنه استطاع أن يكون الوثيقة البصرية التي تعرض للممارسات الصهيونية، بما هي احتلال استيطاني، إجلائي، إحلالي، وما يقوم به من طرق وأساليب، مُعلنة ومُستترة، غايتها الاستيلاء على المزيد من الأراضي، وسحبها من أيدي مُلّاكها الفلسطينيين، بالمصادرة، لا تُعجزه حيلةٌ في هذا السبيل، بدءاً من التلطّي وراء الذرائع العسكرية والأمنية، وليس انتهاءً بالعدوان المباشر.

ولهذا سيكون من المُناسب أن يفتتح الفيلم حديثه بمداخلة مُطوّلة لرئيس بلدية الناصرة، وعضو الكنيست حينها، الشاعر توفيق زيّاد، حين يقول: "ما حدث في يوم الأرض لم يكن اصطدامات، وإنما كان عدواناً صريحاً وسافراً من الشرطة وحرس الحدود والجيش على السكان العرب. وهذا الأمر كان جريمة مدبّرة، لم يحدث نتيجة استفزازات أيّ طرف من الأطراف الشعبية، وإنما كان جريمة مدبّرة ومخطّطة سلفاً، وقد أعلنت الأوساط الحاكمة قبل يوم الأرض، بعدة أيام، أن في ذلك اليوم سيجري تلقين درس للسكان العرب. والكثيرون ممن كانوا ضحية شبّهوا ذلك العداون بعملية إنزال وعملية احتلال مجددة".

تتكثف سياسة الاضطهاد القومي بمصادرة الأراضي، التي تُضاف إلى ممارسات الاحتلال البشع بالإغلاق والمنع والتمييز والتضييق النفسي المعنوي والإذلال، والاعتداء المادي الجسدي الذي وصل في غير حالة إلى مستوى المجزرة الدموية، فلم يكن لفلسطينيي 48 أن ينسوا مجرزة كفر قاسم (29/ 10 /1956)، أو يأمنوا على أنفسهم وأرواحهم وأعراضهم وبيوتهم وممتلكاتهم من اعتداءات وبطش الشرطة وحرس الحدود والجيش، إضافة إلى أنياب القوانين القاهرة التي سنّتها، من طراز: "قانون العودة"، و"قانون أملاك الغائبين"، بما يمكّنها من الاستحواذ على المزيد من الأراضي، ومنع عودة الفلسطينيين فرادى أو جماعات، والتخلّص بما يمكن منهم، إن لم يكن بالترحيل فبالتغييب والنكران.

يتخلّى وثائقي "يوم الأرض" تماماً عن التعليق الصوتي، ويقوم على ثلاثة خطوط سردية، تتداخل فيما بينها: الأرض، الإنسان، الحدث. جرى التعبير عنها مونتاجياً من خلال متتاليات بصرية، تتناوبها مشاهد طبيعية وتعبيرية ودلالية، وأخرى وظيفية، فضلاً عن تصريحات مسؤولين عرب (أمثال توفيق زياد، رئيس بلدية الناصرة، وجمال طربيه، رئيس مجلس محلي قرية سخنين، ومحمود نعامنة، رئيس مجلس محلي قرية عرابة، وعبدالحميد أبوعيطة، رئيس مجلس محلي قرية الطيبة، وجلال أبوطعمة، رئيس مجلس محلي باقة الغربية)، وإفادات من ضحايا اعتداءات، وشهود عيان، بخاصة أن غالبية مشاهد الفيلم صُوّرت بالترافق مع الذكرى السنوية الأولى لـ "يوم الأرض".

منذ عرضه الأول بات فيلم "يوم الأرض" سفير السينما الفلسطينية، وممثلها المتميز، بخاصة بعد فوزه بجائزة "الحمامة الذهبية"، من "مهرجان لايبزغ"، في العام 1978، وهو أحد أهمّ المهرجانات السينمائية التي تهتم بالأفلام الوثائقية في العالم، وعبر سنواته التالية عرف فيلم "يوم الأرض" طريقه للعرض في غير دولة ومناسبة، مساهماً في فضح الادّعاءات الصهيونية برغبتهم في السلام، مفنّداً بالوقائع تصريحات كلّ من شمعون بيريز، ومناحيم بيغين، وأرئيل شارون.


وطن الأسلاك الشائكة
وعلى الرغم من أن السينما الفلسطينية لم تخصّص فيلماً آخر للحديث عن "يوم الأرض"، بهذا الوضوح والمباشرة والتعلّق بالمناسبة والحدث، ولن نجد سوى الوثائقي السوري "الليل الطويل" للمخرج أمين البني (27 دقيقة، 1977)، يأخذ من هذا اليوم موضوعاً يناقشه من مختلف الجوانب، والمستويات، فإن "الأرض" غدت أحد أهمّ العناوين التي لم تكفّ السينما الفلسطينية عن تناولها، بالتوازي مع فضح الاحتلال وممارساته وأساليبه، وتأكيد المقاومة وحقها ومشروعيتها.

يبرز ذلك، بدايةً، في فيلمين وثائقيين حققهما المخرج قيس الزبيدي، أولهما "حصار مضاد" (22 دقيقة، 1978)، وثانيهما "وطن الأسلاك الشائكة" (60 دقيقة، 1980).

في "حصار مضاد" نرى المعاناة الشديدة التي تحيق بالفلسطينيين الباقين على أرضهم، بسبب من فاشية الاحتلال وممارساته، التي تسعى للتضييق على الفلسطينيين بغية التخلّص منهم، في مقابل ثباتهم وصمودهم، فيما يأخذنا "وطن الأسلاك الشائكة" الذي استعان، أيضاً، بمصورين ألمانيين، إلى مواجهة حقيقة الممارسات الصهيونية، القائمة على أوهام "أرض الميعاد"، واعتماد القوة للاستيلاء على فلسطين لأنها "أرض بلا شعب"، ومنحها للصهاينة لأنهم "شعب بلا أرض"، وما حركة "غوش إيمونيم" إلا نموذجاً لذلك.


الأرض... ذاكرة المكان
ومع ولادة السينما الفلسطينية الجديدة، عند مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وتجربة المخرج، ميشيل خليفي، سنجد أن فيلمه الأشهر "الذاكرة الخصبة" (99 دقيقة، 1980)، يمنح قسطاً أساسياً منه لموضوع الأرض، ومصادرتها، عبر شخصية رومية فرح حاطوم؛ المرأة الفلسطينية التي تأبى التنازل عن حقها في أرضها، وعزمها على استعادتها، رافضةً أيّ تعويض، أو حلول بديلة.

كما سيؤسس خليفي لتيار سينمائي فلسطيني عنوانه "ذاكرة المكان"، الذي سيأخذ نصيباً وافراً من الأفلام الفلسطينية، التي تكاد لم تترك قرية عربية فلسطينية مُدمَّرة، إلا صوّرت في ثنايا بقاياها أثراً لبيت أو مسجد أو كنيسة أو بئر ماء، وفتشت عن ذلك تحت أشواك نباتات الصبّار، في تحدّ لمقولة غولدا مائير: "الكبار يموتون والصغار ينسون"، وفي انتساب عميق للأرض الفلسطينية؛ جوهر الصراع وركيزته.


(ناقد سينمائي فلسطيني)

دلالات
المساهمون