"يوسف"... القليل من الحب يكفي

29 سبتمبر 2016
القليل من الحب من قبل المعلم يجعل الطلبة سعداء(Getty)
+ الخط -
يوسف كان طالباً لا يشبه أبداً بقية الطلاب في الصف، ففي ساعات الشرح والهدوء والاستماع يتفجر نشاطه فجأة، فلا يعود يعرف كيف يجلس ولا كيف يهدأ ولا كيف يستمع، ويصبح كما تقول بعض الأقاويل "راكبه عفريت"... وفي بعض الأحيان كان حين يبدأ زملاؤه بالشغب والصخب والعبث يجلس هامداً كالصنم، عيناه زائغتان وفكره يحلّق بعيداً في أمكنة لا يعرفها إلا هو.

كان حيناً، يرفع صوته أمامي ويحاول أن يظهر بمظهر الرجل، أكلّمه بهدوء فيبدو كأنه لم يسمع، أكلّمه بحدّة فيجيب بالصياح، وأحيانا يكلّمني همساً بصوت خفيض، يتوسل برجاء فيه بعض المذلة، لكني كنت أعاملة بجفاء لأنه قليل الاهتمام بواجباته، وكثير الغياب والتغيّب عن المدرسة، حتى أصابتني حيرة مربكة في كيفية التعامل معه.

وحَدَثَ أن تغيّب ذات مرة كعادته، فلم أولِ الأمر كثير اهتمام، قلت أمام الصف: "لا تحدثوني عنه.. إنه لا يعرف مصلحته ولا يسمع النصيحة".

قبل أن أكمل، ردَّ ثلاثة أو أربعة طلاب بنفس الوقت: "يوسف مات أبوه" !
لا أخفي أنني تفاجأت بالخبر، وتشتّتْ أفكاري قليلا:ً صرت أحسب وأعدّ السنوات في ذهني، أقول لنفسي يوسف شاب في الثامنة عشرة من عمره: فهل يا ترى توفى أبوه شاباً وترك عائلته وراءه؟ أم أن يوسف أصغر الأبناء لرجل قارب مرحلة الشيخوخة؟ أو ماذا يا ترى؟
بعد أكثر من أسبوع عاد يوسف، دخل إلى الصف وسلّم بانكسارٍ ذليل وهو يطأطئ رأسه، مشى إلى طاولته وبقي ساهماً طوال الوقت.

لاحقاً سلّمتُ عليه وأسمعته عباراتٍ مواسية، ابتسم بوجهي ابتسامة كبيرة، وتحوّل إلى ملاك هادئ لا يشبه أبداً العفريت المشاغب الذي كان من قبل.

لا أخفي إن الإحساس بالشفقة كان دافعي الأساس لمضاعفة الاهتمام به، أدركت فجأة أنه كان يعاني بصمت، أبوه كان مريضاً، أمضى شهوراً كثيرة في المستشفى، ومع مرضه كان يتألّم وكان يعاني، ويوسف كان يحسّ بالعجز، فكان يفجر حزنه المكبوت في تصرفاته العابثة. قررت أن أجلس معه كلما سنحت فرصة، نتحادث ونتساجل وأشترط عليه أن يراجع ما فاته، مقابل وجبات صغيرة من الحب كنت أمنحها له.

أخبرني أنه أكبر إخوته، وأن أباه توفى في أربعينات عمره، وأمه صارت وحيدة مع ثلاثة أولاد لم ترحمهم الحياة وأنه يسأل نفسه ليلاً ونهاراً ماذا عساه يقدم لأمه وأخويه القاصرين؟ وقال إنه سيترك المدرسة ويبحث عن أي عمل، كي لا يحسّ بالعجز الدائم أمام عائلته الصغيرة.

قلت له أكثر من مرة ربما كان موت أبيك دافعاً قوياً كي تخوض الحياة بمسؤولية وبثبات، ليس عليك أن تهرب من المواجهة. الجبان هو الذي يهرب والإنسان القوي لا يتخاذل.
لم يترك يوسف المدرسة. وكيف يتركها ومشوار الحياة نحو عالم الجامعة لم يتبقّ منه إلا خطوات. وليس الغريب في بقاء يوسف في عامه الثانوي الأخير، إنما الغريب في تحوّل يوسف إلى الشاب الأكثر هدوءاً والأكثر تعقّلاً وتفكّراً.

لا أصدق حين نكون في فسحة من الدرس تلك الأسئلة الكبيرة التي يطرحها يوسف، إنه يملك قدرة فائقة على التحليل والاستنتاج. أضحك كثيراً حين أتذكر حالته القديمة ومشاعره المضطربة مع حالته الآن بعدما تصالح مع نفسه. قال لي ذات يوم ضاحكا "الحياة أسهل بكثير جداً مما نتخيّلها، ألم تقولي لي ذلك؟
قلت له: مع هذا فنحن لا نكسبها إلا بمعركة.. عليك أن تحارب دوماً لتكون جديراً بالحياة ولائقاً بها".

• قصة واقعية من عالم المدرسة ترويها أستاذة بالصفوف الثانوية


المساهمون