"سئمت شفاهنا كثرة البكاء
كيف أستطيع أن أخبرك عن بلادي؟
سئمت أذرعنا حمل النعوش
هم يفعلون ما تخبرهم به قلوبهم
بينما تعبت أفواهنا من منعهم".
قد لا نفهم تماما معاني هذه الأبيات الشعرية، قبل أن نعرف بأنها تنتمي إلى الشاعر عزيز شوكت من منطقة وزيرستان، المحاذية لأفغانستان في الشمال الغربي لباكستان، والتي تكاد لا تعرف اليوم إلا بتطرفها وأصولييها. صارت هكذا بعد أن تحول العالم، وهو العالم الذي لم يعتد رؤية الأشياء بالأبيض والأسود فقط، وبهذا القدر الذي نشهده الآن، إلا بعد انهيار البرجين التوأمين في مانهاتن مثل كومة قش. بعدها تحددت خطوط المعركة: "إما أن تكون معنا أو ضدنا". وعليه فإن "المجاهدين"، الذين قاتلوا ضد السوفييت، ثم ضد بعضهم البعض لأكثر من عقدين من الزمن، اختاروا التحدي، وبالتالي دفعت وزيرستان ثمن ذلك، واكتسبت سمعة سيئة بسبب القلوب السوداء لهؤلاء الرجال المعروفين باسم طالبان والقاعدة.
بعد أكثر من 13 عاما، ما زال هؤلاء البشر المدججون بالسلاح وتتدلى شعورهم الطويلة في حصون الطين، ينشرون صورا مخيفة عن الموت العشوائي. اليوم صار العثور على جوانب الحياة العادية في المناطق القبلية في باكستان وأفغانستان، والبحث عن البازارات والأعياد، أو حتى النساء العاملات في الأراضي الزراعية، بالغ الصعوبة، حتى لا نقول شبه مستحيل. تبدو الحياة في وزيرستان وقد اختطفت من قِبل رسل الرعب والمليشيات التي تتبعهم. بدا كأن الحرب هزمت وزيرستان... وذهب أدبها التاريخي والعريق في عداد الضحايا.
بيد أن نظرة متأنية تخبرنا بأن الأمر ليس كذلك، وأن خلف خنادق البارود والقتل هناك وزيرستان أخرى. ففي وسط كل الاختناق والطالبانية تسلّل هواء نقي في شهر أغسطس/آب عام 2014، تحت عنوان أدب وزيرستان - "بهير"، حين اجتمع العشرات من الشعراء والكتاب لإحياء القيم الأدبية لوزيرستان من الانقراض. "بهير" كلمة قادمة من المناطق البشتونية، وتعني باللهجة المحلية حزمة من الحطب، تجمعه النسوة من أماكن بعيدة ويجلبنه إلى المنازل محمولا على رؤوسهن. لا يزال تقليد "بهير" سائدا في المناطق ذات الأشجار الدائمة الخضرة من الوديان الجبلية. أما بمعناه الأدبي، فإن لفظ "بهير"، وناهيك عن كونه اسماً للرابطة الأدبية التي تحمل على عاتقها الدفاع عن أدب وزيرستان، فإنه يُشير إلى حفظ الأدب في سجل مكتوب، يتضمن الاقتباسات والأمثال والأغاني الشعبية، والتي انتقلت إلى الأجيال بسبب إلهام المثقفين والأدباء الشباب.
موّلت "بهير" نشر ديوان شعر تحت عنوان "شارق برُجال"، يحتوي على أكثر من 40 قصيدة محلية. ويلتقي أعضاؤها بانتظام في جلسات أدبية في مناطق مختلفة من وزيرستان، وينضم إليهم أفغان من مناطق مجاورة أيضا. من هؤلاء نياز علي الذي يكتب بالاسم الشعري "وطن يار" ويعني "محب الأرض"، والذي يقول: "دافعت القبائل في وزيرستان طويلا عن ثقافاتها ضد التهديدات الخارجية. برغم غياب أي مجتمع أدبي بارز يبقى شعبنا في معظمه أمياً، فقد ثابرنا على تقاليدنا بينما لا تزال محبة القبائل للشعر والأدب على قيد الحياة". في كتابه "منزال ومهزال" الوجهة والرحلة، يقول:
"حطم قيودك وكن شخصا غير خاضع، أيها المجنون
كن الضحية من أجل حرية شعبك".
عُرف الأدب في هذه المنطقة العريقة بثرائه في التعبير عن العشق للأرض، والتاريخ، والثقافة،... ، ولؤم الأعداء، وبقي حيا رغم كل الظروف. ففي الحقبة الحديثة، وحينما كانت العمليات العسكرية للجيش الباكستاني تكتسح مناطق واسعة من وزيرستان، كانت القبائل النازحة تتمسّك بلقاءاتها الأدبية في مخيمات في ديرا إسماعيل خان (وهي مناطق قبلية ذات حكم ذاتي داخل باكستان). وفي حقب سابقة كانت القصة ذاتها. فوزيرستان التي تُعد موطنا لثمانمئة ألف من قبائل البشتون (الباتان)، احتلت دوما موقعا استراتيجيا على الحدود بين باكستان وأفغانستان، جعلها مطمعا للغزاة. وهي تنقسم إلى وحدتين إداريتين، شمال وجنوب وزيرستان، وعليهما تسيطر طالبان بشكل كبير منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول سنة 2001 وحتى الآن. وشكلت بذلك عنصر جذب للمتشددين الإسلاميين من آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط. ورغم أنها محاطة بسبع مناطق قبلية، فقد احتلت وزيرستان المرتبة الأولى في كونها مقرا للإسلاميين المتطرفين. ويعود السبب في ذلك إلى كونها تتمتع باستقلال كبير. فعلى مدى عقود طويلة دافع أهلها الذين يأتون في الغالب من قبائل وزير ومحسود، ضد هجمات الغرباء على منطقتهم. وعلى الرغم من بُعدها عن العاصمة، كثيرا ما لعبت هذه القبائل دورا كبيرا في مصائر الحكومات في كابول ودلهي وأماكن أخرى، إذ حاربوا وقاتلوا ضد الجميع بمن فيهم المغول والبريطانيون. وهذا ما دفع اللورد كيرزون، نائب الملك البريطاني في الهند في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ليكتب بحنق: "سيحل السلام في منطقة آسيا فقط حين تدوس المحدلة العسكرية على [وزيرستان] من أقصاها إلى أقصاها".
مع ضم البنجاب عام 1849، وصلت الهند البريطانية إلى حدود أفغانستان. إلا أنه لم يكن للإنكليز أي مصلحة فورية في هذه المناطق القبلية القاحلة، والتي ما يزال النقاش قائما إلى الآن حول كونها أراضي أفغانية أم لا. لكن ولإبقاء القبائل بعيدا، أجبر الإنكليز على شن عملية عسكرية كبيرة على الحدود في كل عام تقريبا لمدة نصف قرن لاحقة. المحارب الأشرس ضد البريطانيين كان ميرزا علي خان، وهو من وزيرستان الشمالية، والمعروف باسم "فقير ايبي"، قد قاد كفاحا بين عامي 1936 - 1947 من أجل الحرية. وفي معركة واحدة فقط استطاع التغلب على 40 ألفاً من القوات الهندية البريطانية، ولم يتم التغلب عليه إلا عن طريق القصف الجوي الوحشي. وعندما توفى عام 1960، اضطرت صحيفة التايمز اللندنية إلى نعيه بتبجيل واضح: "خصم باسل وشريف". ولم يكن وصف التايمز منفردا، فقد سبقته مشاعر ضباط إنجليز من الميدان. فها هو العقيد البريطاني المتعاقد جودوين الذي تمركز لمدة عشرين عاما على الحدود، يعرب عن مشاعره حول الباتان: "خبرتنا مع الباتان تعكس لعبة جنتلمان. لم يعن الفقر أي شيء لأي شخص من الباتان، فقد يلتقي ملك إنكلترا أو نائب الملك في الهند ولكن يستطيع أن ينظر في عينه، ويهز يديه كما لو أنه يقول له، وأنا رجل جيد مثلك أنت".
في عام 1929 استولى القائد الأفغاني المدعوم من بريطانيا، نادر شاه، على العرش الأفغاني بمساعدة جيش من أهالي وزيرستان. كما تم إرسال قوة منهم، خاصة من قبائل محسود في عام 1947 للاستيلاء على كشمير لصالح الجمهورية الإسلامية التي تشكّلت حديثا، أي "باكستان"، الأمر الذي أشعل الحرب الهندية الباكستانية الأولى. وفي هذا السياق لا يمكن أن ترد أية مقولة عن قبائل "الباتان" أفضل مما قاله السير رالف كارو الذي كان آخر حاكم لإقليم بختون خواه وعاصمته بيشاور، وأوردها في كتابه المميز "باتان"، وهي التي تحولت إلى مقولة كلاسيكية، وفيها يقول (عام 1964): "على عكس غيرها من الحروب، فإن الحروب الأفغانية تصبح خطيرة فقط عندما تنتهي؛ في أوقات البريطانيين على الأقل، كان هناك احتمال لتوالد أجيال جديدة من هذه القبائل ذات نفس مقاوم".
مهما تكن عليه أوضاعهم على مر القرون، فإن الموسيقى والشعر ورواية القصص ظلت تأتيهم بشكل تلقائي. النساء اللاتي يرتدين الحجاب المزركش، ويتعكزن على حزم من حطب، يدندنّ قصصا تبجّل الرومانسية للأجيال الأصغر سنا (في وزيرستان، كما في أفغانستان، فإن معظم النساء يرتدين البرقع القبلي فقط عندما يذهبن إلى المدينة). ولا تزال الموسيقى التقليدية من السيتار، ورقصة السيف تفتن الرجال الملتحين، فيما الإناث يغنين ويرددن الشعر مرتجلا في حفلات الزفاف واللقاءات.
ثمة اسمان مهمان احتلا مكانا بارزا لمساهمتهما في أدب الباشتو، هما رحمان بابا وخوشحال خان ختك. وأعاد العلامة الدكتور محمد إقبال قراءة أعمالهم وترجم بعض أشعارهم. وعلاوة على ذلك، أصبح بعض الكتاب من قبائل باتان ذوي شهرة في أدب الأوردو مثل جوش ملیح آبادی، فايز أحمد فايز، وأحمد فراز. وتشمل القائمة كذلك، الكتاب الأفغان البارزين الذين أسهموا في أدب الباشتو مثل غول باشا ألفت، عبد الحي حبيبي، عبد الرؤوف بينوا، قيم الدين كاظم، عبد الشكور رشاد، صادق الله رشتين.
بيد أن أفكار باشا خان، وهو من باتان ويُشبه بمارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا، بقيت ولقرون طويلة راسخة في وعي الباتان. ومع ذلك، أدى الغزو السوفييتي لأفغانستان إلى ظهور الشعر الجهادي مرة أخرى بعد نحو مئتي سنة من الغياب. ويوضح اللغوي البارز الدكتور طارق الرحمن في كتابه، اللغة والسياسة في باكستان (أكسفورد، 1996)، أن الدولة رعت الشعر الجهادي لتثبيط الميول اليسارية والعرقية والقومية لأدباء باتان. ومع ذلك، شهد العقد الماضي إحياءً مستمرا للموضوعات التقليدية مثل الصداقة والرومانسية والغزو والشهادة، والتسامح، والشرف واحترام الذات.
اليوم، تعتبر المناطق الثقافية النشطة لأدب الباشتو هي كابول وقندهار وكويتا (بلوشستان)، كما بدأ العديد من أدباء البشتون تطوير لغة الباشتو على الرغم من الوضع المزري للبلاد. ومع ذلك، يشك الدكتور طارق الرحمن في أن هذا الإحياء للأدب من خلال مختلف المجتمعات الأدبية الجديدة سوف يستمر طويلا، إذ تغيب أي مهن مرتبطة بتطوير اللغة، فضلا عن غياب قرّاء للكتب التي نشرت بلغة الباشتو: "الحكومة الباكستانية هي الملامة لعدم مساعدة لغات الباشتو والبنجابية في الازدهار". ومع ذلك، لا يختلف أحد على أن القرن العشرين أثبت بأنه تربة خصبة جدا ومواتية للابتكار في أدب الباشتو، ففيه ظهرت صنوف أدبية متنوعة مثل الدراما، والقصة قصيرة، والرواية، وأحرف الرسم، وأدب الرحلات، والهجاء. ويأمل الكتاب المعاصرون والشعراء من وزيرستان وعبر قيادة الحركة الأدبية وتنشيطها، في إحياء كبريائهم المجروح على أراضي وزيرستان المدمرة، وبعث الحياة فيها من جديد.
(صحافي استقصائي، إسلام آباد)
سئمت أذرعنا حمل النعوش
هم يفعلون ما تخبرهم به قلوبهم
بينما تعبت أفواهنا من منعهم".
قد لا نفهم تماما معاني هذه الأبيات الشعرية، قبل أن نعرف بأنها تنتمي إلى الشاعر عزيز شوكت من منطقة وزيرستان، المحاذية لأفغانستان في الشمال الغربي لباكستان، والتي تكاد لا تعرف اليوم إلا بتطرفها وأصولييها. صارت هكذا بعد أن تحول العالم، وهو العالم الذي لم يعتد رؤية الأشياء بالأبيض والأسود فقط، وبهذا القدر الذي نشهده الآن، إلا بعد انهيار البرجين التوأمين في مانهاتن مثل كومة قش. بعدها تحددت خطوط المعركة: "إما أن تكون معنا أو ضدنا". وعليه فإن "المجاهدين"، الذين قاتلوا ضد السوفييت، ثم ضد بعضهم البعض لأكثر من عقدين من الزمن، اختاروا التحدي، وبالتالي دفعت وزيرستان ثمن ذلك، واكتسبت سمعة سيئة بسبب القلوب السوداء لهؤلاء الرجال المعروفين باسم طالبان والقاعدة.
بعد أكثر من 13 عاما، ما زال هؤلاء البشر المدججون بالسلاح وتتدلى شعورهم الطويلة في حصون الطين، ينشرون صورا مخيفة عن الموت العشوائي. اليوم صار العثور على جوانب الحياة العادية في المناطق القبلية في باكستان وأفغانستان، والبحث عن البازارات والأعياد، أو حتى النساء العاملات في الأراضي الزراعية، بالغ الصعوبة، حتى لا نقول شبه مستحيل. تبدو الحياة في وزيرستان وقد اختطفت من قِبل رسل الرعب والمليشيات التي تتبعهم. بدا كأن الحرب هزمت وزيرستان... وذهب أدبها التاريخي والعريق في عداد الضحايا.
بيد أن نظرة متأنية تخبرنا بأن الأمر ليس كذلك، وأن خلف خنادق البارود والقتل هناك وزيرستان أخرى. ففي وسط كل الاختناق والطالبانية تسلّل هواء نقي في شهر أغسطس/آب عام 2014، تحت عنوان أدب وزيرستان - "بهير"، حين اجتمع العشرات من الشعراء والكتاب لإحياء القيم الأدبية لوزيرستان من الانقراض. "بهير" كلمة قادمة من المناطق البشتونية، وتعني باللهجة المحلية حزمة من الحطب، تجمعه النسوة من أماكن بعيدة ويجلبنه إلى المنازل محمولا على رؤوسهن. لا يزال تقليد "بهير" سائدا في المناطق ذات الأشجار الدائمة الخضرة من الوديان الجبلية. أما بمعناه الأدبي، فإن لفظ "بهير"، وناهيك عن كونه اسماً للرابطة الأدبية التي تحمل على عاتقها الدفاع عن أدب وزيرستان، فإنه يُشير إلى حفظ الأدب في سجل مكتوب، يتضمن الاقتباسات والأمثال والأغاني الشعبية، والتي انتقلت إلى الأجيال بسبب إلهام المثقفين والأدباء الشباب.
موّلت "بهير" نشر ديوان شعر تحت عنوان "شارق برُجال"، يحتوي على أكثر من 40 قصيدة محلية. ويلتقي أعضاؤها بانتظام في جلسات أدبية في مناطق مختلفة من وزيرستان، وينضم إليهم أفغان من مناطق مجاورة أيضا. من هؤلاء نياز علي الذي يكتب بالاسم الشعري "وطن يار" ويعني "محب الأرض"، والذي يقول: "دافعت القبائل في وزيرستان طويلا عن ثقافاتها ضد التهديدات الخارجية. برغم غياب أي مجتمع أدبي بارز يبقى شعبنا في معظمه أمياً، فقد ثابرنا على تقاليدنا بينما لا تزال محبة القبائل للشعر والأدب على قيد الحياة". في كتابه "منزال ومهزال" الوجهة والرحلة، يقول:
"حطم قيودك وكن شخصا غير خاضع، أيها المجنون
كن الضحية من أجل حرية شعبك".
عُرف الأدب في هذه المنطقة العريقة بثرائه في التعبير عن العشق للأرض، والتاريخ، والثقافة،... ، ولؤم الأعداء، وبقي حيا رغم كل الظروف. ففي الحقبة الحديثة، وحينما كانت العمليات العسكرية للجيش الباكستاني تكتسح مناطق واسعة من وزيرستان، كانت القبائل النازحة تتمسّك بلقاءاتها الأدبية في مخيمات في ديرا إسماعيل خان (وهي مناطق قبلية ذات حكم ذاتي داخل باكستان). وفي حقب سابقة كانت القصة ذاتها. فوزيرستان التي تُعد موطنا لثمانمئة ألف من قبائل البشتون (الباتان)، احتلت دوما موقعا استراتيجيا على الحدود بين باكستان وأفغانستان، جعلها مطمعا للغزاة. وهي تنقسم إلى وحدتين إداريتين، شمال وجنوب وزيرستان، وعليهما تسيطر طالبان بشكل كبير منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول سنة 2001 وحتى الآن. وشكلت بذلك عنصر جذب للمتشددين الإسلاميين من آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط. ورغم أنها محاطة بسبع مناطق قبلية، فقد احتلت وزيرستان المرتبة الأولى في كونها مقرا للإسلاميين المتطرفين. ويعود السبب في ذلك إلى كونها تتمتع باستقلال كبير. فعلى مدى عقود طويلة دافع أهلها الذين يأتون في الغالب من قبائل وزير ومحسود، ضد هجمات الغرباء على منطقتهم. وعلى الرغم من بُعدها عن العاصمة، كثيرا ما لعبت هذه القبائل دورا كبيرا في مصائر الحكومات في كابول ودلهي وأماكن أخرى، إذ حاربوا وقاتلوا ضد الجميع بمن فيهم المغول والبريطانيون. وهذا ما دفع اللورد كيرزون، نائب الملك البريطاني في الهند في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ليكتب بحنق: "سيحل السلام في منطقة آسيا فقط حين تدوس المحدلة العسكرية على [وزيرستان] من أقصاها إلى أقصاها".
مع ضم البنجاب عام 1849، وصلت الهند البريطانية إلى حدود أفغانستان. إلا أنه لم يكن للإنكليز أي مصلحة فورية في هذه المناطق القبلية القاحلة، والتي ما يزال النقاش قائما إلى الآن حول كونها أراضي أفغانية أم لا. لكن ولإبقاء القبائل بعيدا، أجبر الإنكليز على شن عملية عسكرية كبيرة على الحدود في كل عام تقريبا لمدة نصف قرن لاحقة. المحارب الأشرس ضد البريطانيين كان ميرزا علي خان، وهو من وزيرستان الشمالية، والمعروف باسم "فقير ايبي"، قد قاد كفاحا بين عامي 1936 - 1947 من أجل الحرية. وفي معركة واحدة فقط استطاع التغلب على 40 ألفاً من القوات الهندية البريطانية، ولم يتم التغلب عليه إلا عن طريق القصف الجوي الوحشي. وعندما توفى عام 1960، اضطرت صحيفة التايمز اللندنية إلى نعيه بتبجيل واضح: "خصم باسل وشريف". ولم يكن وصف التايمز منفردا، فقد سبقته مشاعر ضباط إنجليز من الميدان. فها هو العقيد البريطاني المتعاقد جودوين الذي تمركز لمدة عشرين عاما على الحدود، يعرب عن مشاعره حول الباتان: "خبرتنا مع الباتان تعكس لعبة جنتلمان. لم يعن الفقر أي شيء لأي شخص من الباتان، فقد يلتقي ملك إنكلترا أو نائب الملك في الهند ولكن يستطيع أن ينظر في عينه، ويهز يديه كما لو أنه يقول له، وأنا رجل جيد مثلك أنت".
في عام 1929 استولى القائد الأفغاني المدعوم من بريطانيا، نادر شاه، على العرش الأفغاني بمساعدة جيش من أهالي وزيرستان. كما تم إرسال قوة منهم، خاصة من قبائل محسود في عام 1947 للاستيلاء على كشمير لصالح الجمهورية الإسلامية التي تشكّلت حديثا، أي "باكستان"، الأمر الذي أشعل الحرب الهندية الباكستانية الأولى. وفي هذا السياق لا يمكن أن ترد أية مقولة عن قبائل "الباتان" أفضل مما قاله السير رالف كارو الذي كان آخر حاكم لإقليم بختون خواه وعاصمته بيشاور، وأوردها في كتابه المميز "باتان"، وهي التي تحولت إلى مقولة كلاسيكية، وفيها يقول (عام 1964): "على عكس غيرها من الحروب، فإن الحروب الأفغانية تصبح خطيرة فقط عندما تنتهي؛ في أوقات البريطانيين على الأقل، كان هناك احتمال لتوالد أجيال جديدة من هذه القبائل ذات نفس مقاوم".
مهما تكن عليه أوضاعهم على مر القرون، فإن الموسيقى والشعر ورواية القصص ظلت تأتيهم بشكل تلقائي. النساء اللاتي يرتدين الحجاب المزركش، ويتعكزن على حزم من حطب، يدندنّ قصصا تبجّل الرومانسية للأجيال الأصغر سنا (في وزيرستان، كما في أفغانستان، فإن معظم النساء يرتدين البرقع القبلي فقط عندما يذهبن إلى المدينة). ولا تزال الموسيقى التقليدية من السيتار، ورقصة السيف تفتن الرجال الملتحين، فيما الإناث يغنين ويرددن الشعر مرتجلا في حفلات الزفاف واللقاءات.
ثمة اسمان مهمان احتلا مكانا بارزا لمساهمتهما في أدب الباشتو، هما رحمان بابا وخوشحال خان ختك. وأعاد العلامة الدكتور محمد إقبال قراءة أعمالهم وترجم بعض أشعارهم. وعلاوة على ذلك، أصبح بعض الكتاب من قبائل باتان ذوي شهرة في أدب الأوردو مثل جوش ملیح آبادی، فايز أحمد فايز، وأحمد فراز. وتشمل القائمة كذلك، الكتاب الأفغان البارزين الذين أسهموا في أدب الباشتو مثل غول باشا ألفت، عبد الحي حبيبي، عبد الرؤوف بينوا، قيم الدين كاظم، عبد الشكور رشاد، صادق الله رشتين.
بيد أن أفكار باشا خان، وهو من باتان ويُشبه بمارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا، بقيت ولقرون طويلة راسخة في وعي الباتان. ومع ذلك، أدى الغزو السوفييتي لأفغانستان إلى ظهور الشعر الجهادي مرة أخرى بعد نحو مئتي سنة من الغياب. ويوضح اللغوي البارز الدكتور طارق الرحمن في كتابه، اللغة والسياسة في باكستان (أكسفورد، 1996)، أن الدولة رعت الشعر الجهادي لتثبيط الميول اليسارية والعرقية والقومية لأدباء باتان. ومع ذلك، شهد العقد الماضي إحياءً مستمرا للموضوعات التقليدية مثل الصداقة والرومانسية والغزو والشهادة، والتسامح، والشرف واحترام الذات.
اليوم، تعتبر المناطق الثقافية النشطة لأدب الباشتو هي كابول وقندهار وكويتا (بلوشستان)، كما بدأ العديد من أدباء البشتون تطوير لغة الباشتو على الرغم من الوضع المزري للبلاد. ومع ذلك، يشك الدكتور طارق الرحمن في أن هذا الإحياء للأدب من خلال مختلف المجتمعات الأدبية الجديدة سوف يستمر طويلا، إذ تغيب أي مهن مرتبطة بتطوير اللغة، فضلا عن غياب قرّاء للكتب التي نشرت بلغة الباشتو: "الحكومة الباكستانية هي الملامة لعدم مساعدة لغات الباشتو والبنجابية في الازدهار". ومع ذلك، لا يختلف أحد على أن القرن العشرين أثبت بأنه تربة خصبة جدا ومواتية للابتكار في أدب الباشتو، ففيه ظهرت صنوف أدبية متنوعة مثل الدراما، والقصة قصيرة، والرواية، وأحرف الرسم، وأدب الرحلات، والهجاء. ويأمل الكتاب المعاصرون والشعراء من وزيرستان وعبر قيادة الحركة الأدبية وتنشيطها، في إحياء كبريائهم المجروح على أراضي وزيرستان المدمرة، وبعث الحياة فيها من جديد.
(صحافي استقصائي، إسلام آباد)