"هديّة من الماضي"… فيلم مصري بنكهة عالميّة

13 ديسمبر 2016
+ الخط -
بعد الكثير من التطور التكنولوجي والتقني خلال السنوات العشر الأخيرة، أصبحت السمة الغالبة على الكثير من الأفلام التسجيلية في العالم، هي التجريب لاستغلال الإمكانيات الجديدة. فلم يكن مُتاحاً من قبل، أن يتم تصوير الأفلام بالموبايل، أو متابعة كل شيء بكاميرات غير مرئية، أو أن يكون الفيلم نفسه مغامرة فردية يتحرك فيها المخرج طويلاً، دون أن يعرف هل سينتج شيئاً في النهاية أم لا. ولكن التطور التقني جعل ذلك قريباً جداً. ولوقتٍ طويل، بدا أن السينما المصرية، التجارية والمستقلة، بعيدة عن هذا التجريب ومحاولات استكشاف القدرات الجديدة التي يمكن العمل بها في الأفلام، حتى أتى فيلم المخرجة كوثر يونس، "هدية من الماضي"، الذي بدأت تنفيذه وهي في التاسعة عشرة من عمرها، وكمشروع تخرج من معهد السينما، لتكون النتيجة مبهرة ورائعة بحق، في واحد من أهم الأفلام المصرية التسجيلية في السنوات الأخيرة.

فيلم "هدية من الماضي" يقوم على لعبة ومغامرة بسيطة، تفاجئ كوثر والدها الدكتور مختار يونس، بتذكرتين إلى إيطاليا في عيد ميلاده الخامس والسبعين (في 20 سبتمبر/ أيلول، كما يشير العنوان الآخر للفيلم)، وذلك من أجل البحث عن "باتريسا"، حبيبته القديمة التي تركها منذ 33 عاماً، ولم يجر بينهما أي اتصال منذ ذلك الحين. وعن طريق كاميرات خفية وموبايل وكاميرا اللاب - توب، تقوم كوثر بمتابعة الرحلة كلها، تصوّر 350 ساعة، على مدى عدة أشهر، لتخرج في النهاية هذا الفيلم عن تلك الحكاية.

المغامرة هي السمة الأساسية للفيلم، وهي سمة مهمة وكبيرة لأغلب الأفلام التسجيلية العظيمة، أن تبدأ الطريق وأنت لا تعرف إلى أين ينتهي، وتخوض الرحلة مع قبول كامل لأنك قد لا تصل أبداً. كوثر يونس بدأت الفيلم وهي لا تعرف هل سيوافق والدها على السفر أم لا، وهل سيحصلان على الفيزا لإيطاليا أم لا، هل سيقابلان "باتريسا" فعلاً؟ والسؤال الأكبر: هل ستوافق الشخصيات (التي صور دون علمها) على عرض الفيلم بعد انتهاء مونتاجه؟ لا توجد أي نقطة ارتكاز وقفت عليها المخرجة، كانت تكتشف، أثناء التنفيذ، ويكتشف معها المشاهد أثناء الفيلم، إلى أين ستصل. وهذا الأمر كله هو جزء من جودة وقيمة وصدق العمل.

السمة الثانية المهمة للفيلم، هي استغلال الإمكانيات، ومحاولة اكتشاف كيف نحكي بواسطة السينما. كوثر يونس، في التاسعة عشرة من عمرها، تبدو روحها حرة وحية جداً لإنجاز هذا الفيلم، لا تلتزم بأي تقاليد أو جماليات معتادة، ويكون الرهان الأساسي (وأحياناً الوحيد) هو الصدق والتورط في الرحلة، ومتابعة الحياة والمشاعر دون حائل لأن حتى أصحابها لا يعرفون الآن أن هذا مُصور. ونتيجة للمغامرة والتجريب، فإن الأقدار تساعدها أن يكون كل شيء موفقاً إلى هذا الحد، وتسير الأمور بتضامن من جميع العابرين، كالشخص المصري الذي يقابلانه بالصدفة في المطار، أو أصحاب الفندق الذين يساعدونها، أو "باتريسا" نفسها في النهاية، فكما يحدث في الحياة هناك الكثير من العابرين، ولأن هذا الفيلم "حياة جداً" فهو ممتلئ بهم.

أما النقطة الأخيرة التي تمثل جانباً أساسياً من قوة الفيلم، فهي عدم وجود مساءلات أخلاقية كبيرة من ناحية المشاهد. فهو يعلم منذ اللوحة الأولى، أن كل الشخصيات في الفيلم وافقت على ظهورها فيه، وحتى السؤال الذي يتزايد مع تقدم الأحداث حول صلة العمل بالأم (التي نراها في مرحلة مبكرة توافق على الرحلة) ومشاعرها حين ترى كل هذا، ينتهي هو الآخر برقة شديدة، حين تهدي كوثر يونس فيلمها في اللوحة الختامية "إلى ماما"، فيزداد الفيلم صفاء، ويخلق صلة مع المشاهد تطرح أسئلة غير متعمدة عن الماضي والحاضر، وما تركناه وراءنا وما صرنا عليه، الأشخاص الذين لم نعرف عنهم منذ زمن، والآخرون الذين بقوا بالجوار. والفيلم، في النهاية، يتناول العلاقة القوية جداً بين الأب والابنة، كواحد من أصدق الأفلام التي يمكن مشاهدتها عن ذلك.


دلالات
المساهمون