"أعرف أنكنّ وأنكم تدركون ما أقول تماماً. لا تستهينوا باللمس. وأرجوكم أرجوكم تجنّبوا التعميم والجزم في هذه الساعة، نحن هنا لنعرف أنفسنا أكثر، ولسنا هنا ليطرح كل منا ادّعاءاته كأنها معلومات ثابتة. اسمحوا لي بجملة أخيرة: ما الذي يبقى لنا حين تشيخ أجسادنا غير القدرة على لمس من نحبهم والرغبة في لمسهم إيانا؟".
بمشهدية مثل هذه، ينسج الروائي الفلسطيني عبّاد يحيى تفاصيل روايته "هاتف عُمومي" الصادرة عن "دار الأهلية" (2015).
شخصيتان مركزيتان، شكّلتا من مستهل العمل وحتى ختامه، محور الأحداث، التي أخذ الروائي مهمة سردها عنهم. وزّع الروائي الصوتَ على بطليْ الرواية ضمن تتابع درامي مقنع، مبقياً إياهما في حالة انفصال مؤجل حتى نهايته.
الراوي، حاضر في معظم مفاصل الرواية، شاهداً على أحداثها وتطوّر شخصياتها النفسي والجسدي من جهة، ومعلِّقاً/ مفسّراً لاشتباكاتها الاجتماعية من جهة أخرى.
رام الله/ المكان في "هاتف عمومي" تأخذ شكل المسرح الجامع لأحداثٍ تدور حول رجل وامرأة، الأول (عبّاس) موظف عاديّ في "المصرف الوطني"، تأكله هواجسه البسيطة حول التمسّك بوظيفته التي اعتادها في ضبط أمور طوابير زبائن المصرف من جهة، وبتساؤلاته الصامتة عن كل شيء من حوله من جهة أخرى.
"عبّاس وأمثاله هم من يملؤون المسافة بين تلك الأسماء المفردة وذاك الشيء المسمى جماعة (...) من تخاطبهم المذيعات بأعزائي المستمعين، عزيزاتي المستمعات، مستخدمي الهواتف العمومية".
والثانية (هيفاء) مذيعة لبرنامج الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل، مذيعة بالصدفة، تعمل في قسم خدمات الجمهور عبر الهاتف في المصرف ذاته، أُعجب مسؤول في إذاعة محلية بصوتها (فقط) فعيّنها.
بلغة مباشرة، يكتب عباد: "يمكن التأريخ للتغيّر الفارق في مسار هيفاء باللحظة التي أدرك فيها مدير إذاعة محليّة كان يتصل بالمصرف مستفسراً عن تأخّر حوالة يترقّبها، أن هيفاء موهوبة. بل إن هيفاء تملك صوتاً نادراً لم يلج أذنيه شبيه له من قبل، وأنه سيفعل أي شيء للتعاقد معها للعمل في إذاعته المسموعة جيداً في محافظة رام الله والبيرة، وما حولها من بلدات ومدن".
وفي جزء آخر من الرواية، يعطينا النصف الثاني من الحقيقة: "لم يكن لهيفاء من اسمها أي نصيب، بل تصلح للدلالة على بُطلان المقولة، وحده صوتها كان يليق باسمها وينسجم معه".
تذهب هيفاء بعيداً في مهمة الاختباء خلف صوتها الجميل، خارجاً عبر أثير الإذاعة إلى كل أجهزة المذياع في منازل المدينة المستسلمة لاتساق أحداث الرواية. ترفض بطلة الرواية، وفي معظم أجزائها، الظهور أو الاحتكاك مع المجتمع، إنه الحضور الثقيل المشحون بالارتباك؛ ارتباك زاده الشكل الخارجي الكثير من الالتباس والرغبة في إبقاء أمر شكلها سراً.
يظهر حضور هيفاء أقوى وأكثر تجذّراً في الرواية من حضور عباس، ليس فقط على صعيد حجم الأجزاء المخصّصة لتتبع سير الشخصيتين الرئيستين في العمل، وحسب، بل في تأثير هذه الشخصية في السياق الروائي.
ففي الوقت الذي ينكمش حضور عباس بشكل تصاعدي مترافقاً مع تعاظم الشعور بمحدودية الإمكانيات والمهارات، يزداد نفوذ هيفاء ويزداد ضحاياها المفترضون، ليس بفعل ما تخطط له، بل بفعل استفادتها الفطرية من قدرة صوتها على جلب الكثير من السلطة والقوة لها، سواء في "الخط الماسي" الذي خصّصه المصرف لها، أو عبر برنامجها الإذاعي "هاتف عمومي".
ينتمي عنوان العمل "هاتف عمومي" إلى العناوين التي تحيل القارئ مباشرة وبدون جهد إلى أهم مكونات العمل، وهو اسم البرنامج الإذاعي الذي انتقته هيفاء للساعة المخصصة لها عبر أثير الإذاعة، في حين اكتفى الكاتب بجمل مفتاحية قصيرة لبعض الأجزاء، وترك معظم الأجزاء الأخرى بدون عناوين.
تتسم رواية عباد يحيى بالواقعية المكثفة المتبنية لصراخ القضايا الصغيرة للإنسان المهزوم، يستغني صاحب "القسم 14" فيها عن محاكمة المدينة في إطار السرديات الكبرى وخطابات الأوطان، يعود من خلالها إلى رام الله في هذا العمل، بشكل جديد، ليس مغايراً بقدر ما هو مسحوب إلى آخره في إطار معالجات مفاهيم ما بعد الاستعمار عن شكل رام الله في عمله الأول؛ "رام الله الشقراء" (2011).
تظهر مهارة يحيى في إخضاع شخصيات العمل لمشارط التشريح النفسي بطريقة لافتة في معظم محاور الرواية، تشريح اتسم بالدقة والكاريكاتورية في وقت واحد، رَسَم من خلاله ملامح الشخصيات الرئيسية في حالاتها النفسية: باكية أو صامتة أو مستكينة أو مفكرة أو منفجرة بطريقة خاسرة تماماً.
نثر وسرد، طعّمه الراوي بالكثير من التأملات الفلسفية التي أخذت مكانها على امتداد الرواية. إنها عملٌ ينشغل باليومي الدال والموظّف في أبعاد أخرى أعم، من دون أن ينزاح فيها إلى المقولات الكبرى تماماً، أو إلى تهميشها. رواية كاشفة بعمق للتحولات الاجتماعية والسياسية في فلسطين اليوم.