يُعد يورغن هبرماس (1929) أحد أبرز المفكرين على قيد الحياة، وتمثّل مدوّنته فضاء تتقاطع فيه مجالات عدة مثل الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسية واللسانيات. وهبرماس واحد من أكثر المفكرين المعاصرين حضوراً في العربية حيث ترجمت له أعمال كثيرة منها: "القول الفلسفي للحداثة"، و"الفلسفة لألمانية والتصوّف اليهودي"، و"المعرفة والمصلحة"، و"العلم والتقنية كأيديولوجيا".
لكن عمله الأبرز "نظرية الفعل التواصلي" بقي غائباً عن الثقافة العربية في ما عدا بعض الدراسات والإحالات رغم أنه صدر منذ عام 1981. بترجمة المفكّر التونسي فتحي المسكيني، صدر العمل مؤخراً ضمن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في مجلدين؛ الأول بعنوان عقلانية الفعل والعقلانية الاجتماعية"، والثاني "في نقد العقل الوظيفي".
يتألف المجلد الأول (624 صفحة) من أربعة أبواب. في الباب الأول وعنوانه "مقدمة: مداخل إلى إشكالية العقلانية"، يقترح هابرماس تأملاً تمهيدياً جاء بعنوان "مفهوم العقلانية في علم الاجتماع". وفي الفصل الأول المعنون بـ"العقلانية - تعيينٌ مؤقت للمفهوم"، يتناول قابلية النقد في الأفعال والإثباتات، وطيف التلفظات القابلة للنقد، ويستطرد في شأن نظرية الحجاج.
وفي الفصل الثاني "في بعض سمات الفهم الأسطوري والفهم الحديث للعالم"، يبحث في بنى الفهم الأسطوري للعالم بحسب موريس غودلييه، والتمايز بين ميادين الموضوعات في مقابل التمايز بين العوالم، والجدال الإنكليزي في العقلانية في إثر بيتر فينش: حجج مع موقف ذي نزعة كونية وحجج ضد، ونزع المركزية عن صور العالم في إقحام مؤقت لمفهوم عالم الحياة.
ينتقل هبرماس في الفصل الثالث، "في العلاقات مع العالم وفي مختلف جوانب عقلانية الفعل ضمن أربعة من المفاهيم السوسيولوجية عن الفعل"، ليتناول نظرية بوبر عن العوالم الثالثة وتطبيقها على نظرية الفعل، ومفهومات ثلاثة عن الفعل، متمايزة بحسب علاقات الفاعل -و- العالم، هي: فعل غائي (استراتيجي) (الفاعل –و- العالم الموضوعي)، وفعل مضبوط بمعايير (الفاعل –و- العالم الاجتماعي والموضوعي)، فعل درامي (الفاعل –و- العالم الذاتي والموضوعي).
ويختتم المفكر الألماني هذا الباب بالفصل الرابع "إشكالية فهم المعنى ضمن العلوم الاجتماعية"، ويعالج فيه المعنى من منظور نظرية العلم، عارضاً التصورات المثنوية للعلم، ومدخل الفهم إلى ميدان الموضوعات، والمؤول في العلوم الاجتماعية بوصفه مشاركاً بالقوة. ثم يعالج المعنى من منظور سوسيولوجيا الفهم، من خلال الفينومينولوجيا الاجتماعية والمنهجيات الإثنية والهرمينوطيقا الفلسفية.
أما الباب الثاني فهو بعنوان "نظرية ماكس فيبر في العقلنة"، ويحتوي أيضاً أربعة فصول أخرى. الفصل الأول بعنوان "في النزعة العقلانية الغربية"، ويأتي على مظاهر هذه النزعة، ومفاهيم العقلانية، والمحتوى الكوني في هذه النزعة العقلانية الغربية. ثم يتناول هبرماس في الفصل الثاني وعنوانه "في نزع السحر عن الصور الدينية - الميتافيزيقية للعالم وانبجاسة البنى الحديثة للوعي"، العوامل الداخلية والخارجية في تطور صور العالم، وجوانب المحتوى في الديانات العالمية، وجوانب بنيوية مثل نزع السحر والتشكيل النسقي، ونزع السحر والفهم الحديث للعالم.
ينتقل هبرماس في الفصل الثالث "في التحديث من حيث هو عقلنة اجتماعية: دور الأخلاق البروتستانتية"، ليتناول أخلاق الدعوة البروتستانتية والأنموذج المدمر لذاته للعقلنة الاجتماعية، والمحتوى النسقي للتأمل الأوسط. ويختم هذا الباب بالفصل الرابع "في عقلنة القانون وفي تشخيص العصر الحاضر"، فيتحدث عن مكونين اثنين في تشخيص العصر الحاضر: فقدان المعنى وفقدان الحرية، وعن العقلنة الملتبسة للقانون؛ القانون من حيث هو تجسيد للعقلانية العملية – الخلقية، والقانون من حيث هو وسيلة تنظيمية.
أما الباب الثالث، "الفاصل التأملي الأول: الفعل الاجتماعي والنشاط بمقتضى غاية والتواصل"، فجاء فيه فصل وحيد بعنوان "ملاحظة تمهيدية عن النظرية التحليلية في الدلالة وفي الفعل"، يتحدث فيه هبرماس عن صيغتين اثنتين عن نظرية الفعل لدى ماكس فيبر: صيغة رسمية وأخرى غير رسمية. كما يتناول التوجه نحو النجاح في مقابل التوجه نحو التفاهم (منزلة المفاعيل المؤثرة بالقول)، والدلالة والصلاحية (مفعول الربط المؤثر بالقول في عروض الأعمال الكلامية)، وادعاءات الصلاحية وأنماط التواصل، والمحاولات المتنافسة نحو تصنيف أعمال الكلام (أوستين، وسيرل، وكريكل)، والتداولية الصورية والتداولية التجريبية (الدلالة اللفظية في مقابل الدلالة السياقية: الخلفية المعرفية الضمنية).
ويحمل الباب الرابع عنوان "من لوكاتش إلى أدورنو: العقلنة بوصفها تشيّؤًا"، وفيه مقدمة بعنوان "تأمل تمهيدي: في عقلنة عوالم الحياة في مقابل التعقد المتنامي لمنظومات الفعل"، وفصلان. يبدأ الفصل الأول بعنوان "ماكس فيبر ضمن تراث الماركسية الغربية"، ويتناول فيه هبرماس أطروحتي فقدان المعنى وفقدان الحرية، ويبحث في تأويل لوكاتش أطروحة فيبر عن العقلنة. ثم يختم هبرماس هذا الباب، والكتاب أيضًا، بالفصل الثاني وعنوانه "في نقد العقل الأداتي"، يعالج فيه نظرية الفاشية والثقافة الجماهيرية، والنقد المضاعف ضد التومائية الجديدة والوضعانية الجديدة، وجدل التنوير، والجدل السالب بوصفه تمريناً روحياً، والتفسير الفلسفي الذاتي للحداثة واستنفاد براديغم فلسفة الوعي.
يتألف المجلد الثاني (663 صفحة) من أربعة أبواب، ويبدأ تعداده بالباب الخامس بعد أربعة أبواب في المجلد الأول. يتضمّن الباب الخامس؛ "تغيير البراديغم لدى ميد ودوركهايم: من النشاط بمقتضى غاية إلى الفعل التواصلي"، ملاحظة تمهيدية وثلاثة فصول.
في الفصل الأول بعنوان "في تأسيس العلوم الاجتماعية على نظرية التواصل"، يبحث هبرماس في استشكال نظرية التواصل لدى ميد، والانتقال من لغة الإيماءات تحت البشرية إلى التفاعل بتوسط الرموز، والتدقيق في نظرية الدلالة لدى ميد بالاستعانة بمفهوم فتغنشتاين عن اتباع قاعدة ما، والانتقال من التفاعل بتوسط الرموز إلى التفاعل المسترشد بمعايير، والبناء التكميلي للعالم الاجتماعي والعالم الذاتي.
أما في الفصل الثاني، "في سلطة المقدس والخلفية المعيارية للفعل التواصلي"، فيتناول هبرماس دوركهايم والجذور المقدّسة للأخلاق، ومواطن الضعف في نظرية دوركهايم مستطردًا في الجذور الثلاثة للفعل التواصلي: المكوّن القضوي، والمكوّن الإفصاحي، والمكوّن المتضمّن - في- القول. كما يتناول الشكل التفكُّري للفعل الموجّه نحو التفاهم والعلاقة الانعكاسية بالذات.
ويعالج هبرماس في الفصل الثالث، "البنية العقلانية للتحويل اللغوي للمقدس"، تطوّر القانون وتغير شكل الإدماج الاجتماعي انطلاقًا من الأسس غير التعاقدية للعقد، ومن الانتقال من التضامن الآلي إلى التضامن العضوي. ويبحث في منطق هذا التحوّل موضحًا بحسب الحالة الحدّية الخيالية لمجتمع مدمَج في شكل شامل، وفي التعليل الذي قدّمه ميد عن أخلاق الخطاب، مستطردًا في شأن الهوية والتفرّد؛ التحديد الرقمي والعام والكيفي لهوية شخص ما (هاينريش، توغندهات).
يشمل الباب السادس، "الفاصل التأملي الثاني: المنظومة وعالم الحياة"، مقدمة بعنوان "ملاحظة تمهيدية عن الإدماج الاجتماعي والإدماج المنظوماتي بالاستناد إلى نظرية دوركهايم عن تقسيم العمل"، وفصلين.
في الفصل الأول، "في تصور عالم الحياة والمثالية الهرمينوطيقية للسوسيولوجيا الفاهمة"، يبحث هبرماس في عالم الحياة بوصفه أفق الفعل التواصلي وخلفيته، وفي المفهوم الاجتماعي - الفينومينولوجي عن عالم الحياة في ضوء نظرية التواصل، والانتقال من المفهوم الصوري - التداولي إلى المفهوم السوسيولوجي لعالم الحياة من خلال المفهوم السردي، ووظائف الفعل الموجّه نحو التفاهم بالنسبة إلى إعادة إنتاج عالم الحياة، وحدود السوسيولوجيا الفاهمة التي تماهي بين عالم الحياة والمجتمع.
ويتحدث الفصل الثاني، "فك الارتباط بين المنظومة وعالم الحياة"، عن المجتمعات القبلية بوصفها عوالمَ حياةٍ اجتماعية – ثقافية، وعن المجتمعات القبلية بوصفها منظومات محكومة ذاتيًا، عارضًا آليات التمايز المنظوماتي، والترسيخ المؤسساتي لآليات الإدماج المنظوماتي في عالم الحياة، وعقلنة عالم الحياة في مقابل تقننته، في تخفيف العبء عن وسط اللغة المتداولة من طريق وسائط تواصلية منزوعة اللغة، وفكّ الارتباط بين المنظومة وعالم الحياة وإعادة صياغة أطروحة التشيؤ.
في الباب السابع، "تالكوت بارسونز: المشاكل التي تعترض بناء نظرية في المجتمع"، مقدمة بعنوان "تأمل تمهيدي في موقع بارسونز ضمن تاريخ النظرية"، وثلاثة فصول.
يتناول هابرماس في الفصل الأول، "من النظرية المعياروية عن الفعل إلى النظرية المنظوماتية عن المجتمع"، على مشروع عام 1937 عن نظرية الفعل، متناولًا المفهوم الإرادوي عن الفعل، والمفهوم المعياروي عن النظام، والمعضلة النفعانية، ومشكل التنسيق بين الأفعال تحت شروط العرَضية المزدوجة. كما يتكلم على نظرية الفعل في الحقبة الوسطى المبكّرة متناولًا الربط بين التحفيزات وتوجيهات القيم، وبأي وجه تقوم الثقافة والمجتمع والشخصية بتعيين توجيهات القيم، وإدخال "المتغيرات النمطية". ويختم بتدقيق مفهوم المنظومة والتنازل عن أولوية نظرية الفعل.
وفي الفصل الثاني، "في تطوير نظرية المنظومة"، يبحث هبرماس في تطوّر النظرية منذ "ورقات عمل"، متناولًا إزالة الفرق بين الإدماج الاجتماعي والإدماج الوظيفي، وخطاطة الوظائف الأربع وسيرورة تكوّن المنظومة، وتعديل المتغيرات النمطية بحسب خطاطة الوظائف الأربع، وإعادة تأويل القيم الثقافية في قيم اسمية سيبرانية، والحتمية الثقافية. كما يتحدث عن الفلسفة الأنثروبولوجية المتأخرة وهشاشة التسوية بين نظرية المنظومة ونظرية الفعل، ونظرية وسائط التحكّم.
ويدرس هبرماس في الفصل الثالث، "في نظرية الحداثة"، عقلنة عالم الحياة وزيادة تعقّد المنظومة وقد أُزيل التمايز بينهما، مستطردًا بشأن محاولة إعادة "كنْطَنة".
يتضمن الباب الثامن، "تأمل ختامي: من بارسونز، عبر فيبر، إلى ماركس"، ملاحظة تمهيدية وثلاثة فصول. في الأول، "عودة إلى نظرية الحداثة لدى ماكس فيبر"، يتكلم هبرماس على أطروحة فيبر عن البَرَقرَطة وقد أُعيدت صياغتها في مصطلحات المنظومة وعالم الحياة، وعلى إعادة بناء تفسير فيبر عن نشأة الرأسمالية، واستعمار عالم الحياة: استئناف تشخيص فيبر العصر الحديث من خلال علاقات التبادل بين المنظومة وعالم الحياة في المجتمعات الحديثة، والأسلوب الموحّد للسلوك في الحياة والتجفيف البيروقراطي للفضاء العمومي السياسي.
ويبحث الفصل الثاني، "ماركس وأطروحة الاستعمار الداخلي"، في التجريد الواقعي أو تشييء روابط الفعل المتعلقة بالإدماج الاجتماعي، وذلك في أداء نظرية القيمة، وبعض مواطن الضعف في هذه النظرية. كما يتناول أنموذج علاقات التبادل بين المنظومة وعالم الحياة بدراسة تدخّل الدولة وديمقراطية الجماهير ودولة الرفاه، والتسوية التي تقدّمها الدولة الاجتماعية، وانحلال الأيديولوجيات والوعي اليومي المجزَّأ. ويختم بدراسة نزعات القوْنَنة، خصوصًا القوْننة في ظلّ تدخّل الدولة، أي التضارب بين ضمان الحرية والحرمان من الحرية.
أما في الفصل الثالث، "مهمات نظريةٍ نقدية في المجتمع"، فيعالج هبرماس طيف الموضوعات التي عالجتها النظرية النقدية المبكّرة، وهمزات وصل بالنسبة إلى نظرية الفعل التواصلي، مثل: أشكال الإدماج في المجتمعات ما بعد الليبرالية، والتنشئة الاجتماعية في الأسرة وتطوّر "الأنا"، والوسائط الجماهيرية والثقافة الجماهيرية، وطاقات الاحتجاج الجديدة. كما يبحث في نظرية العقلانية والسياق التاريخي.