ريثي بان (كمبوديّ الأصل، فرنسيّ المواطنة) مناضل سينمائيّ لن يضاهى. لا وصف آخر يمكن أن يثمّن اشتغالاته حول "هولوكوست" الخمير الحمر (1968 ـ 1999)، وتصفياتهم التي طاولت مليوناً ونصف مليون إنسان من أهل بلده، منهم عائلته. أشرطته روح عناده في استعادة ذكريات موت بشر أبرياء، ومشهديات فناءاتهم.
أراد السفاح بول بوت، عبرها، تحقيق أسطورة يوتوبيا "المجتمع الصفر"، وتوليد شعب بروليتاريّ، رمزه "كائن جديد" منضبط ومُخْلِص، وخال من شوائب أفكار أوثوقراطية، ونزعات عصيان، ولوثات رأسمالية فاجرة.
سينما ريثي بان، برمّتها، إعادة تشكيل لذاكرة ذاك الدمّ، والوجوه المغدورة، والحيوات المستأصلة غيلة، والاجتثاث الوحشيّ، وعبودية التحزّب واستبداداته، وطواغيت الأمن التوتاليتاري وجرائمهم.
وضع مرثياته البصرية المجيدة، وهي في كثرتها وثائقيات تشبه سلسلة سينمائية لن تنتهي مفاجآتها، حول مذابح القهر وفرائسها المتعرّضين لإقصاءات مرعبة، وتهجير قسري، وهتك أعراض، وسجون تعذيب انفرادية، وجلسات إعدامات لا تشبع من زهق أرواح.
بما أن السينما لديه فعل تأليبٍ لا يمكن تعطيله، ذهبت أفلامه نحو وجع جماعيّ لبشر أفنتهم لوثة حزبيّة مجنونة. لكن نصّه "أس 21: ماكينة الخمير الحمر للقتل" (2003) كرّس انقلاباً فارقاً في مقارباته للإثم الكمبودي، إذْ جمع في صيغة الـ "ديكودراما" معتقلي السجن سيىء الصيت، الذي يحمل الشريط رمزه، مع سجّانيهم، في جلسات اعترافات صادمة ومثيرة للتقزّز.
انتصرت هذه الخطوة السردية غير المسبوقة لتغريب دراميّ استفزازيّ، تجابهت فيه إرادتا فناء وحقّ. استكمل هذا التغريب وابتكاريته في شريطه العصيّ على التصنيف "الصورة الناقصة" (2013)، مستخدماً دمى من صلصال بأوضاع مختلفة، لسرد حكاية تنكيل تعرض له والده قبل تصفيته.
جديده المدهش، "منفى"، كذلك، مُولِّد إبداعي. يقول على لسان المعلق إن "كل ثورة جريمة تخون أخرى". هو ليس دراما عادية، ترتب أفعال كائن محكوم بالتحايل على ميتته المؤجلة. المؤكد أنه مختلف، ومرصوص بفَيْض لا حدّ له من الخيال وشاعريته وجماليات صوره، واحتشادات ألوانها وتشكيلاتها الأخاذة. دلالاته وروحه التجريبية اجتمعت في "تضاهٍ بصريّ" خدّاع في تمظهراته السينمائية.
أرشيف صورة المنفي وتواريخه اندثرت، وبثّ الروح في وقائعها يتطلّب بالضرورة كمّاً وافراً من صناعة التشكيل ومحاكاته ومجازياته، أنجزها مدير التصوير، ميزار بروم، برونق مرسوم بلون ترابيّ برتقالي وتدرجاته، وإضاءة مركزة بقصد تأكيد اصطناعية المشهديات، وبنائها الممسرح.
هذه ليست مسوحات تجميلية لحكاية وأماكن ونشاط يوميّ، بل شعرية تجريدية خلاّقة وسحريّة بمقاطع متناظرة، حسم ريثي بان خياراتها بقوله: "يمكنك أن تقتل إنساناً، لكن لا يمكنك أن تغتال الأفكار، أو أن تقتل الخيال".
يتحول فيها المنفي (سانغ نان) إلى كائن متعدد، بسحنة واحدة ولباس واحد وشجن واحد. يمارس كل المواظبات الإنسانية بشكل متسلسل. هو طريدة مختبئة بين أحراش، ونائم طاف في فراغ تحت أقمار الربّ وملائكته، من دون أن يسعفوه أو ينقذوه. صياد ناصب مصائده لضمان استمرار كينونته. مهموم باللقمة، نراه نائماً في صحن فارغ هائل الحجم، حينما يعصف به الجوع، أو واقفاً في حرج إزاء خيال 49 من مغارف رز أبيض، حالماً بوفرتها. هو زوار حقول القتل ومتمعنّو صور مراكز ذاكرة الموت. حدائقي زارع لوروده البيضاء. أب مستعيد لمقتنيات عائلته في مشهد الملابس والحقائب والمتعلقات الشخصية المتروكة، وقوله الجارح: "عشت منفاي أكثر من بهجتي بطفولتي".
مؤتمن على ذاكرة وجوه أحباب يتحولون إلى كواكب منيرة، ترتفع في فراغ كوخه البائس، متخيلاً أمام صورهم كفيّ زوجته تتحنّنان على وجنتيه. مجبور على رفع الكتاب الأحمر للخمير أمام شاشة تسقط عليها مشاهد المجاعة الشهيرة وفظاعاتها. سينمائي مقهور يعرض صور وثائقيات مريرة نراها في انعكاسات ماء شحيح لطاسات بدائية.
"المنفى" فيلم صامت، كونه مختبر صور ومرئيات. هدف التعليق، الذي كتبه المخرج بمشاركة الفرنسيين، أنيس سينيمو وكريستوف بتاي، "تخريب" خطاب "بروباغندا" تقليديّ، وتقويض شعارات تلقينه وتهويله وتطرّفه ومناوراته.
ذهب مونولوغ "المنفى" في مقاطع كثيرة إلى صيغ تأملية، نشدت شعرية بوح عام، مدعومة باقتباسات من مشاهير، كالشاعر بودلير وماو تسي تونغ وبروبسبيير وغيرهم، لا تتعلق بالبطل الوحيد (وهو، بالمناسبة، شبيه ريثي بان)، أو بما يقوم به، بل استهدفت ظنونه وارتعاباته، حيث تصبح جمل المصاحبة الصوتية، المغطية للدقائق الـ 78 للفيلم، أقرب الى رثاءات شخصية حول محرقة تعرضت لها أمة بغفلة تاريخ، ولم يسعفها بمقاضاة عادلة. غرقت بعض تلك الجمل في مثاقفة ثقيلة اللسان على شاكلة: "الشرّ هو ثمن الخير الشائع"، و"الأطفال يذهبون إلى الحرب ضد أنفسهم. إنهم غضب مشتعل". لكنها لم تنل من صوابية لعناته على جريمة لا غفران لها.