كان على الكاتب الأميركي من أصل فرنسي، سانش دو غرامونت، المعروف باسم تيد مورغان (1938)، أن ينتظر عشر سنواتٍ على صدور مذكّراته، حتّى يتردّد صداها في الجزائر. فقد نُشرت، لأوّل مرّة، باللغة الإنكليزية عام 2006 في الولايات المتّحدة، لكن صداها لم يصل إلى المستعمَرة السابقة إلّا بعد صدور ترجمتها الفرنسية. ويبدو ذلك أمراً متوقّعاً في مشهد لا يقرأ مثقفوه -إلّا في ما ندر- بغير اللغتين العربية والفرنسية.
صدر الكتاب في آذار/ مارس الماضي، عن "منشورات تالونديي" الفرنسية، تحت عنوان "معركة الجزائر خاصّتي"، مع عنوان فرعي "اعترافات أميركي في قلب المأساة الفرنسية"، بترجمة للفرنسي ألفريد دي مونتيسكيو (1978)، وهو صحافي محقّق، سبق أن حاز "جائزة ألبرت لندرس"، إحدى أبرز الجوائز الصحافية في فرنسا، عن سلسلة ريبورتاجات أنجزها حول الأحداث الليبية، ونشرها على صفحات مجلّة "باري ماتش" عام 2012.
وُلد مورغان في مدينة جنيف السويسرية لأب فرنسي وأمّ أميركية. وحين بلغ الثالثة والعشرين، استُدعي لتأدية الخدمة العسكرية ضمن صفوف الجيش الفرنسي الاستعماري في الجزائر. في العام 1957، وفي خضمّ "معركة الجزائر"، جرى نقلُه من جبال الشَفّة في محافظة المْديّة؛ حيثُ شارك في القتال ضدّ مناضلي "جبهة التحرير الوطني"، إلى الجزائر العاصمة.
وهناك، انضمّ إلى صحيفة "الوقائع" الدعائية التي كان يُشرف عليها الجنرال جاك ماسو (1908 - 2002)؛ أحد أبرز مُجرمي حرب الجزائر. ويبدو واضحاً أن لصلة القرابة بين الجنرال والكاتب/ الجندي دوراً في نقل الأخير إلى العاصمة.
هكذا، انضمّ مورغان، الذي سيُعرف لاحقاً ككاتب ومؤرّخ ألّف قرابة عشرين كتاباً باللغة الإنكليزية، إلى الحرب النفسية التي خاضها ماسو ضدّ الثورة الجزائرية؛ فشارك طيلة عام في كتابة مقالات تسعى للنيل من معنويات المحاربين الجزائريين.
كان الهدف هو حسم الأحداث التي اندلعت في الجزائر العاصمة منذ 1956، بما فيها إضراب الطلبة الجزائريين، في التاسع عشر من أيار/ مايو 1956، والذي جاءَ استجابةً لدعوة وجّهتها قيادة الثورة. أمّا الوسائل المستخدمة في تلك الحرب، فتنوّعت بين الدعاية والتعذيب. وكلّ ذلك بالموازاة مع العمل العسكري الذي كان يجري على الأرض.
يعود مورغان إلى الوراء ستّين عاماً لـ "يُؤرّخ" لأحداث كان مشاركاً فيها وشاهداً عليها. لكن، يبدو أن تلك السنوات الطويلة لم تكن كافيةً ليُجري الكاتب العجوز بعض المراجعات التاريخية، سواءً على المستوى العام، أو على المستوى الشخصي؛ إذ، وجرياً على نهج كثيرٍ من قادة الجيش الاستعماري الذين أصدروا مذكّراتٍ تفاخروا فيها بجرائم الحرب التي ارتكبوها ضدّ ملايين الجزائريين، لم يُبد مورغان "صحوة ضمير"، بل ظلّ مصرّاً على أن يروي القصّة وفق سردية استعمارية، وقد أشهر ذلك بالبنط العريض في عنوانه الفرعي الذي يتحدّث عن "المأساة الفرنسية".
تستعيد المذكّرات، من وجهة نظر مؤلّفها، "معركة الجزائر" التي يعتبرها مؤرّخون نقلةً في مسار الثورة؛ حيث نفّذ عددٌ من مناضلي "جبهة التحرير الوطني"، عمليات فدائية في قلب المدينة، ضمن إستراتيجية جديدة تبنّتها قيادة الثورة تتمثّل في نقل العمل المسلّح إلى المدن، حيثُ تتمركز دوائر الاستعمار الرسمية ويتواجد الإعلام العالمي.
من بين الأسماء التي شاركت في تنفيذ تلك العمليات: حسيبة بن بوعلي، وجميلة بوحيرد، وجميلة بوعزّة، وزهرة ظريف بيطاط، وعلي عمّار المعروف بـ علي لابوانت، ومحمود بوحميدي، وطالب عبد الرحمن، وعمر ياسف، وياسف سعدي. وقد انتهت إلى عملية شنّتها القوّات الاستعمارية التي حشدت قرابة 4000 مظلّي ضدّ مجموعة من فدائيي "جبهة التحرير الوطني"، انتهت بقتل واعتقال عددٍ منهم.
يُعدّ ياسف سعدي (1920) من بين أبرز الأسماء التي ارتبطت بالمعركة. فهو، إلى جانب كونه أحد المشاركين القلائل الذين ما زالوا على قيد الحياة، ساهم في التوثيق لتلك الأحداث، سواءً كتابةً، أو من خلال السينما؛ إذ شارك في فيلم "معركة الجزائر" (1966) للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو، كاتباً ومنتجاً وممثّلاً.
لكن، ليست تلك هي الأسباب الوحيدةُ، بل ثمّة ما هو أهم: نقاط الظلّ التي ظلّت تُثار حوله، فبينما يعتبره بعضهم بطلاً من أبطال معركة الجزائر، يرى فيه بعضهم الآخر "خائناً"، وكثيراً ما صرّح عددٌ من الفاعلين في الثورة بأنه "قام بدور مشبوه"، وحمّلوه مسؤولية اغتيال علي لابوانت.
هكذا، تأتي المذكّرات لتجدّد اتهام سعدي بالوشاية برفاقه في الثورة. فبحسب مورغان، مثل سعدي أمام قاضي تحقيق فرنسي طيلة اثنين وعشرين يوماً، بعد اعتقاله، وأدلى خلال تلك الفترة بمعلومات عديدة؛ من بينها "مكان اختباء لابوانت وبن بوعلي وبوحميدي وعمر ياسف".
عائلة سعدي ردّت، قبل أيام، على الكتاب، معلنةً رفع دعوىً قضائيةً ضدّ مورغان الذي ذكّرت بماضيه في خدمة الدعاية الاستعمارية، ووصفت ما ورد في مذكّراته بأنه "محض أباطيل وتزييف للتاريخ"، متعهّدةً بالكشف عن قرابة مئتي وثيقة، لم تُنشر بعد، قالت إن سعدي تحصّل عليها مؤخَّراً، وهي "تلقي الضوء على نقاط مسكوت عنها في قضية استشهاد علي لابوانت وحسيبة بن بوعلي".
مع السجال الذي أثارته المذكّرات في المشهد الجزائري، تعودُ إلى السطح قصّة "ليست قصيرة"، عنوانُها الأبرز تخوين الفاعلين في الثورة التحريرية. يُمكن استسهال الأمر والنظر إليه على أن الجندي الفرنسي السابق يواصل مهمّته الدعائية التي بدأها في "الوقائع" قبل تسعة وخمسين عاماً، بهدف زرع التشكيك في "رموز الثورة". لكن المشكلة ليست بهذه البساطة، لأن التخوين ظلَّ تهمةً يتقاذفُها إلى اليوم من كانوا ذات يوم رفقاء في السلاح. وتلك قصّة أخرى.