"مسافة ميل بحذائي" في الدار البيضاء السفلية

15 أكتوبر 2016
(مشهد من الفيلم)
+ الخط -

حين تعرّف جمهور السينما في المغرب إلى فيلم "مسافة ميل بحذائي" للمخرج سعيد خلّاف، تعرّف أيضاً إلى تلك الحكاية التي صاحبت ظهوره؛ حيثُ أن لجنة اختيار الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية لـ "المهرجان الوطني للفيلم" في طنجة، الذي يُعدّ أبرز حدث سينمائي محلّي، لم تلتفت إليه، ولم تُدرجه ضمن المسابقة الرسمية في البداية.

لكن أصداء فوزه بـ "السعفة الذهبية" في "مهرجان الأقصر للسينما العربية والأوروبية"، جعلتها تُعيد النظر في قرار استبعاده. وبعدما ألحقته بقائمة الأفلام المشاركة، حاز أبرز ثلاث جوائز في المهرجان الذي نُظّم في آذار/ مارس الماضي: الجائزة الكبرى وأفضل ممثّل وأفضل ممثّلة. ولاحقاً، سيُقرّر "المركز السينمائي المغربي" ترشيحه لتمثيل المغرب في مسابقة "الأوسكار" لسنة 2017، عن فئة "أفضل فيلم أجنبي".

يقدّم خلّاف، في عمله الأوّل هذا، قصّة عن أطفال الشوارع، الفئة التي ظلّت منذ عقود مضت وستبقى لعقود مقبلة، في حاجة إلى الكاميرا. يفتح "مسافة ميل بحذائي" نافذةً على حياة مئات من الأطفال في مدينة الدار البيضاء، من خلال قصّة الطفل سعيد (يجسّد سعيد العلمي دور الطفل، وأمين الناجي دور الشاب)، الذي يعيش حياةً قاسيةً مثل ملايين الأطفال في البلاد؛ حيث نشأ في أسرة رحل عنها الأب، فتضطرّ أمّه (زوهرة نجوم) للارتباط بزوجٍ ثان (عبد الإله عاجل) بعد أن أنهكتها ظروف الحياة، لكن الرجل سيسلبها أموالها ويغتصب ابنتها، ويطرد ابنها من البيت.

في الشارع، لا يجد سعيد عوناً سوى من طفل متشرّد آخر اسمه مصطفى (يجسّد زهير قاريوى دور الطفل، ومحمد حميمصة دور الشاب)، والذي يصحبه إلى مكان مهجور يحكمه شخص يلقّب بـ "النمرود"، ويتّخذ من طفل صغير يُدى "لالّة حبي" (يجسّد سعد جرعام دور الطفل، ومحمد نعيمان دور الشاب) "زوجة" له، يجعل من هذا الوكر مملكةً، ويُرغم الأطفال على تقبيل يده في طقس يومي قبل أن ينطلقوا إلى العمل الذي هو، في الغالب، سرقة أو مسح الأحذية، وكلّ ما يمكن أن يأتي بالمال.

في تمرّد مبكر، ينتفض سعيد على طقس العبودية الذي يفرضه "النمرود"، وهو ما سيجعله يتلقّى عقاباً شديداً. ولاحقاً، سيتصيّد فرصة مناسبة لسرقة أمواله والهروب برفقة مصطفى وسعد. لكن بعد سنوات، سيشكّل هذا الثلاثي عصابة تمارس السطو والسرقة، لكن من دون إلحاق الأذى بالناس.

غير أن أفعال صديقهم سعد، الذي تطارده ذكرياته السيئة كانت تستبق الأحداث؛ إذ كان يبحث عن الانتقام من أي مخلوق يصادفه، فالناس، في نظره، ليسوا سوى أشكالٍ متعدّدة لـ "النمرود" الذي كان يغتصبه بشكل يومي.

أمّا مصطفى، فيغتصب امرأة قرب الحي بعد أن وقع عطب بسيارتها، وهذا سيرمي بنا إلى حكاية أخرى؛ فالمرأة هي زوجة رئيس قسم شرطةٍ في الدار البيضاء، والذي سيعتقل كل المشتبه فيهم في تلك المنطقة، ومن ضمنهم سعد الذي سيجدها فرصة مناسبة للإيقاع بصديقه؛ حيث يؤكّد للشرطة أن سعيد هو من ارتكب الجريمة. وهكذا، يُعتقل الأخير في يوم زواجه، لكنه سيفضّل قضاء عقوبة السجن بدل الاعتراف بأن مصطفى هو من قام بالجريمة.

لا تسير أحداث "مسافة ميل بحذائي" في مسار واحد تدور فيه بشكل منسجم ومتوالٍ؛ مخرج الفيلم، وهو كاتب السيناريو أيضاً، اختار أن يمرّر نصف الحكاية عن طريق الفلاش باك، أثناء جلسة لطبيبة نفسية (تمثيل تفيسة بنشهيدة) مع سعيد عقب وجوده في السجن، في طريقة مشابهة لسير عمليّة التحقيق مع جمال في فيلم "الميليونير المتشرّد" (2008) لـ داني بوييل.

سنتعرّف إلى تفاصيل قصّة سعيد الذي كان، مع كل إجابة عن أسئلة الطبيبة، يحرّك جزءاً من مأساته، في تداخل بين الماضي والحاضر لم يُفض بالقصة إلى فقدان خيطها الناظم، بل جعلها تربط بين سبب ونتيجة حتمية، أي بين الإهمال ونتيجته؛ فالخط السردي ظل واضحاً باعتماد جلسة سعيد والطبيبة نقطةً تبدأ منها الأحداث وتنتهي إليها.

إضافةً إلى التداخل على مستوى الزمن، سيُضَمِّن المخرج قصّة الفيلم مشاهدَ مسرحية على طريقة تشارلي كاوفمان؛ فجزء من حياة سعيد، وخصوصاً علاقته بأمّه، كانت عبارة عن أداء مسرحي ذكّر بزمن ازدهار المسرح في المغرب. وهنا، يبدو اختيار المخرج كلّاً من زوهرة نجوم وعبد الإله عاجل لدورَي الأمّ وزوج الأم مدروساً، بالنظر إلى انتمائهما المسرحي وانسجامهما معاً، إذ جمعتهما عدّة أعمال مسرحية سابقاً.

يبقى حضور أمين الناجي في هذا العمل نقطة قوّة كبيرة، ومفاجأة سارّة لجمهور السينما، فالممثّل الذي عرفه الجمهور خلال مسيرة جيدة، ولكنها ليست استثنائية، من خلال مسلسلات تلفزيونية عديدة؛ مثل "ثرية" لـ يونس الركاب، و"الغريب" لـ ليلى التريكي، وأيضاً من خلال أفلام سينمائية؛ مثل: "أندرمان" لـ عز العرب العلوي و"الزين لي فيك" لـ نبيل عيّوش، قدّم هنا دوراً مغايراً يضعه على مسافة بعيدة من كل أعماله السابقة.

الناجي، الذي جسّد دور سعيد في شبابه، كان طيلة الفيلم أمام كاميرا مدير التصوير علي بنجلون بملامح لم يغادرها الحزن إلا نادراً، وإن تركته فإلى فرح يُخفي خوفاً وضعفاً كبيرين. الكادرات الكبيرة التي حاصرت وجه سعيد في مشاهد كثيرة كانت فرصة لإعادة اكتشاف ممثّل كان يخبّئ مخزوناً كبيراً لدور جاء مع هذا الفيلم، ويُحسب للمخرج أنه اهتمّ كثيراً بجانب الأداء، واستطاع أن يقدّم للمشاهد نسخةً أخرى من سعيد الناجي.

في 16 أيار/ مايو عام 2003، شهدت مدينة الدار البيضاء سلسلةً من الهجمات المُتزامنة بالأحزمة الناسفة، وكانت أسوأ هجوم وأكثره دموية في تاريخ البلد. هذه النقطة هي التي أوحت للمخرج بقصّة فيلمه. الكلّ تيقّن، حينها، أن المزيد من التهميش والهروب إلى الأمام في قضية أطفال الشوارع كانت تعني بالتأكيد إنتاج جيوش من الأطفال الذين سينقلبون في يوم ما على الكل، وسيقومون بتفجير أنفسهم إن لزم الأمر، حتى يعلم العالم أن هناك الآلاف من الأطفال الذين يواجهون، لوحدهم، معركة قاسية مع حياةٍ لا ترحم.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مفارقة الأوسكار
لا أحد، ربما، كان يتصوّر أن الفيلم الذي لم تُعره لجنة "مهرجان الفيلم الوطني" في طنجة اهتماماً كبيراً في البداية، سينال أكثر من 15 جائزة في مهرجانات عربية وأجنبية؛ أبرزها الجائزة الكبرى في المهرجان نفسه، وجائزتا لجنة التحكيم في "وهران"، و"خريبكة"، ومؤخّراً، "أفضل فيلم أجنبي" في "لوس أنجليس السينمائي". المفارقة لم تقف هنا، فأوّل عمل طويل لسعيد خلّاف، سيمثّل المغرب في مسابقة "الأوسكار" لسنة 2017.

دلالات
المساهمون