"مريولي" المخطط بالأبيض والأزرق
اعتقدت أن تلك الصورة الباهتة في ذاكرتي قد تلاشت مع مرور الزمن، وأن دور "أونروا" في حياتي، كلاجئة فلسطينية، قد انتهى، لأنني عمدت إلى طمس كل ما يربطني بتلك المنظمة الإغاثية الدولية، فهي تذكّرني بمأساة لجوء شعبي، متمثلاً في عائلتي التي لجأت إلى غزة، وتنقلت بين مخيماتها. ولذلك، أمضيت تسع سنوات من عمري، ورغماً عني، تلميذة في مدارسها.
كنت مجبرةً على ارتداء المريول المخطط باللونين الأبيض والأزرق، وكنت مجبرةً على استخدام أدوات القرطاسية رديئة الصنع التي أتسلمها في بداية العام، وتحمل شعار "أونروا"، ابتداء من الكراسات وحتى الكتب المهترئة، والتي يتناقلها التلاميذ عاماً بعد عام. وأكثر ما كان يؤلمني اصطحابنا، ونحن في المرحلة الابتدائية، صوب مركز التغذية المجاور للمدرسة؛ لتناول وجبة غذائية كريهة المذاق، لازلت أستذكر طعمها في حلقي، على الرغم من مرور السنوات الطويلة، وكنت أغافل المسؤول عن توزيع الطعام، فأمرر طبقي لزميلتي التي تتناوله بشراهة، أو أسكبه أسفل الطاولة.
ارتبطت خدمات "أونروا" بالنسبة لي بشعور مرير بالضياع، وبأن الأجانب الذين يأتون لزيارة المدرسة في سياراتٍ عليها علم وكالة غوث اللاجئين، ومطبوعٌ على جوانبها شعار الوكالة، إنما يحتفون بضياعي ولجوئي، وليس كما يدّعون ويظهرون بأنهم جاؤوا لمساعدتنا. فهمت ذلك منذ صغري، من دون أن يشرح لي أبي ذلك، وهو الذي كان يفاخر بأنه يعمل معلماً في إحدى مدارس "أونروا"، ويتلقى راتباً كبيراً بالعملة الأجنبية. مرت السنوات، وتركت تلك المدرسة مهشمة السقف، فلا تقينا المطر وتلفحنا شبابيكها المهشمة برداً؛ لتوصلني إلى المرحلة الثانوية تلميذة نابهة ومتفوقة.
إلى ذلك، اعتقدت أنني قد تحرّرت من عقدة "أونروا" حتى تزوجت، وأجبرتني قوانين اللجوء على تسجيل اسمي في مركز الصحة التابعة لها؛ للحصول على تطعيمات خاصة بالحوامل، وتلقي الرعاية الصحية الشهرية، ثم تسجيل أطفالي واحداً تلو الآخر في مركز الصحة، لتلقي تطعيماتهم والحصول على معونات عينية بسيطة كل عدة أشهر، بعد ولادتهم، والتي سرعان ما تضاءلت ثم انقطعت. كنت أفعل ذلك مرغمةً، لكيلا أشذ عن المعتاد والمتبع في العرف، حيث ينبغي على الزوجات الصغيرات أن يتبعن نصائح "الحماوات"، ويذهبن بصحبة "الحماة" صوب مركز الصحة التابع لـ"أونروا"، وبعد إجراء التطعيمات والفحوصات الشهرية المعتادة، تصطحب الحماة "الكنة" في جولة حول السوق الشعبي الذي يقام، ويوجد أمام كل مركز صحة تابع للوكالة في كل مخيمات غزة، ويخصص ركن فيه لبيع المعونات التي تستغني عنها الأمهات لنساء تخصصن في المتاجرة بها، واتخذن من بيعها والتربح القليل منها مهنة، منذ سنوات بعيدة.
عزمت على الابتعاد عن كل ما يذكّرني بحالة الذل والهوان التي تجعلني أحتاج رعاية "أونروا"، وبأنني لم أعش مواطنة عادية في أي دولة في العالم، تحظى بحقوقها من حكومتها ودولتها، وأخفيت بطاقة الإعاشة في قعر حقيبتي، ولم أحمل أياً من أطفالي، لتلقي دواء يصرف لكل المرضى على السواء في عياداتها، وكنت أعالجهم في عيادات خاصة، مهما كلفني ذلك من مال، حتى حلت الحروب المتتالية على غزة، مصرة على إحياء وترسيخ ذلك الشعور بالمرارة بداخلي، وبأننا شعب موعود بالتشرد والضياع، ففتحت المدارس لإيواء النازحين والمشردين والذين هدمت بيوتهم، فاستقبلت نحو 90 مدرسة تابعة لـ"أونروا" آلافاً منهم. وإمعاناً في المأساة، رفض كثيرون منهم مغادرة المدارس، احتجاجاً على أوضاعهم، ولم ينصاعوا للأوامر بالتجمع في ثلاث مدارس، استعداداً لبدء العام الدراسي الجديد، الأسبوع الجاري في غزة، والذي تأخر أسبوعين عن موعده المقرر.
ما رأيته من أحوال صعبة بعيني في المدارس، وما عرضته شاشات التلفزة، زاد من شعوري بالضياع، ووجدت نفسي عاجزة عن إقناع ابنتي بالذهاب للمدرسة، وكانت على حق، حين سألتني: كيف سأذهب إلى المدرسة، وأسترجع مشاهد قصف الناس الآمنين في المدارس؟ ربما عثرت على آثار دماء فوق مقعدي؟
أجل يا صغيرتي... آثار دماء تحكي مأساة شعب.