ما أوسع حجرات مصر عندما يرتبط التاريخ بالحاضر، أو عندما ترسم تلك الأوابد ملامح هجرة متبادلة بين حضارتين تركتا أثراً عميقاً في مسار التاريخ الإنساني. في البداية كان الصدام، عندما أصبحت مصر مقاطعة تابعة لـالإمبراطورية الرومانية في عام 30 ق.م، بعد هزيمة ماركوس أنطونيوس والملكة البطلمية كليوباترا السابعة، على يد الجنرال الروماني أوكتافيوس (الذي أصبح إمبراطوراً فيما بعد باسم أغسطس) في معركة أكتيوم، لتتحول على إثرها إلى غلَّةِ قمح بالنسبة لروما.
علاقات لم تنقطع بين مصر وإيطاليا المعاصرة منذ ذلك التاريخ، ويأتي هذان المعرضان: "حجرة مصر" و"الاكتشاف المبهر لـالفرعون أمنحوتب الثاني" في "متحف الثقافات" بميلانو، ليلقيا الضوء على بعض جوانب هذه الأواصر، القديمة والحديثة، لهاتين الحضارتين العريقتين.
في معرض "ميلانو مدينة العالم: حجرة مصر" تستقبلك الحجرة الأولى، في الطابق الأرضي، بثلاث شاشات ضخمة، تعرض بلا توقف مقابلات لمصريين من الجيل الأول والجيل الثاني من المهاجرين إلى إيطاليا. ثمّة لوعة فيّاضة في تلك الكلمات، وجروح لم تندمل بعد في قلوب أشخاص قضوا مجمل حياتهم في الغربة، من أجل تأمين لقمة العيش لهم ولأحبائهم في أرض الوطن.
كلمات حزينة تنضح بها شفاه المسنين، وأخرى مفعمة بالأمل تبثها شفاه شبّان وشابات بلهجة ليس فيها شائبة من لكنة أجنبية. يروون قصصهم ويرسمون آمالهم بعفوية وثقة كبيرة، ولا يخفون حنينهم لوطن لا يعرفونه بعد، أو في بعض الحالات، لا يتكلّمون لغته.
إنها قصة أبناء مصر، من القاهرة، من أقاصي الصعيد، من الدلتا، من مدن السويس، والفيوم، والبحيرة وحواضر مطروح، في عراكهم الطويل، وصبرهم الذي أصبح مضرب مثل بين الإيطاليين، ليحققوا في النهاية جزءاً من أحلامهم، وليتبوأوا، عن جدارة، مرتبة أفضل صنّاع بيتزا في إيطاليا. مقاطع حديثة وقديمة، تبدو وكأنها مقتطفة من أفلام روبرتو روسيلليني وصلاح أبو سيف، نفس الموسيقى التصويرية ونفس الملامح المتوسطية لشعبين بقيا دائماً على تواصل منذ آلاف السنين، ليذكّر، في النهاية، كصياغة معاكسة لماضٍ قريب، أن أكثر من ستين ألف إيطالي كانوا يقيمون ويشتغلون في مصر حتى الخمسينيات.
و"ميلانو مدينة العالم"، مشروع أبحاث يستمر منذ سنوات عدة، ابتدأه "متحف الثقافات" بالتعاون مع "مستشارية الثقافة" في بلدية ميلانو. والمشروع يتناول كل عام مسار إحدى الجاليات الكثيرة التي تعيش في ميلانو، عبر احتفاليات ومعارض ومحاضرات تستمر لمدة ستة أشهر.
وفي الفترة ما بين نهاية عام 2017 وأوائل عام 2018، سيكون موضوع الأبحاث مصر والمصريين المقيمين في ميلانو، أي الجالية الثانية من حيث العدد الموجودة في المدينة منذ أعوام السبعينيات. وهي جالية منظمة ومندمجة في النسيج الاجتماعي عبر حضور قوي في مجال التجارة والأعمال، وقبل كل شيء في حقلي المطاعم والبناء.
أما المعرض الثاني المتزامن أيضاً مع "حجرة مصر" فقد افتتح في الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر الماضي، ويستمر حتى السابع من كانون الأول/ يناير 2018، وهو حصيلة تعاون بين "جامعة ميلانو" و"متحف الثقافات"، ويشرح للزائر حياة وشخصية الفرعون أمنحوتب الثاني الذي عاش في الفترة ما بين 1427 و1401 قبل الميلاد، أثناء حكم السلالة الثامنة عشرة (1550-1295 قبل الميلاد)، وبطل حقبة تاريخية استثنائية وغنية، حتى إنها وصفت من قبل المؤرخين بالحقبة الذهبية.
يضم المعرض مكتشفات أثرية قادمة من أهم المراكز التي تحتوي على الآثار المصرية، مثل "المتحف المصري" في القاهرة، و"متحف ريجسموسيوم فور فولكنكوند" في لايدن بهولندا، و"متحف فيينا" و"المتحف الوطني للآثار" في فلورنسة. وتتنوع المعروضات ما بين تماثيل من الرخام والصخور الكلسية، وشواهد القبور، والأسلحة، وأغراض من الحياة اليومية في البلاط، ومستلزمات جنائزية، ومومياءات ونواويس خشبية مع نقوش وزخرفات بألوان زاهية لا تزال تحتفظ برونقها بعد مرور آلاف السنين.
ما يميز المعرض أيضاً، أجهزة الوسائط المتعددة، السمعية والبصرية، والسينوغرافيا الموجودة في القاعات، والتي تتيح للزائر أن يعيش بيئة وأجواء مصر القديمة في عام 2000 قبل الميلاد، ما يضفي على المعرض لمسة فريدة.
ويحاول المعرض من خلال ذلك سرد مسار مضاعف للزوار، أي إبراز الملامح التاريخية للفرعون أمنحوتب الثاني، الفرعون السابع في الأسرة الثامنة عشرة، وهو ابن الملك تحتمس الثالث (1425 ق.م.) من زوجته ميريت رع حتشبسوت، الفرعون الأسطورة وأحد أقوى الأباطرة في التاريخ، والاكتشاف الكبير لمدفنه في "وادي الملوك" عام 1898.
وهدف المعرض هو المزج، بطريقة منسجمة، بين البحث العلمي الدقيق الذي يميز الدراسات الأكاديمية، وبين التركيز على تجربة الإحساس العاطفي الذي يقرّب الزائر من المحتوى السردي والبصري.
معرض "الاكتشاف المبهر للفرعون أمنحوتب الثاني" تجربة متفردة، حيث يسمح بالدخول إلى صالة الأعمدة لمدفن أمنحوتب الثاني، ومعايشة لحظة اكتشاف مقبرته في وادي الملوك عبر مستندات أصلية، ورسومات وصور توثق تلك اللحظة التاريخية. ومن بين الكنوز التي كان يحتفظ بها المدفن، مومياءات لعدة فراعنة كان قد تمّ إخفاؤها في هذا الصرح العملاق خوفاً من تدنيسها أو سرقتها من قبل لصوص المقابر.