لا أحد يسأل ما الذي دفع أورهان باموق، الروائي التركي الحائز جائزة نوبل (2006)، إلى إعداد "متحف البراءة" الذي يحمل نفس عنوان إحدى رواياته. الزوّار يتجوّلون في أرجاء الغرف، يُمعنون النظر في الأغراض المعروضة داخل الخزائن، يتأملون، يتهامسون، يبتسمون، ثم تجدهم يركّزون كلّ حواسهم في محاولة أخيرة لتسجيل صورة يريدون هم أيضاً أن ينقلوها بأمانة إلى متاحف ذاكرتهم.
ومن قرأ الرواية، لا يستطيع إلّا أن يتخيّل كمال (الشخصية الرئيسية) وهو يقوده عبر ذاكرته، إلى عوالم أراد من خلالها الكاتب أن يجسّد لنا المراحل المتعدّدة من روايته، وربما أبعد من ذلك، فكلاهما، بطل الرواية والكاتب، يشكّلان كياناً واحداً، بجذور وتطلعات مشتركة.
في الفيلم القصير الذي يُعرض بشكل متواصل في غرفة جانبية، يروي باموق قصة المتحف بالإنكليزية، والأغراض التي جمعها، بمشاركة بطله، قبل وأثناء كتابته رواية "متحف البراءة"، وكيف أن تلك الأغراض رسمت بدقة حقباً مختلفة من تاريخ تركيا، مع دلالات تسبق، بل أحياناً تتخطى حدود الذاكرة، لتنطلق نحو آفاق يمكن أن تبدو لنا كمستقبل بعيد، أو ماض يمكن لمسه بأصابع اليد.
الرواية والمتحف، يقول باموك في ختام الفيلم، سيكون مكانهما البيت، أي في المكان الذي احتوى خلال فترات حياتنا، ما نطلق عليه اليوم خزّان آلامنا وآمالنا.
و"متحف البراءة" كان قد افتتحه باموق في إسطنبول عام 2012، بنفس اسم روايته، لأن الرواية والمتحف كان قد تمّ تكوينهما والتفكير بهما معاً ابتداء من أعوام التسعينيات، والأغراض المعروضة في المتحف، كان قد جمعها من الأسواق الشعبية ومن الأصدقاء، وساعدت الكاتب في بناء قصة الحبّ التي هي محور روايته.
وبعد أن عُرضت مقتنيات المعرض في مدن أوربية مختلفة في الأعوام الأخيرة، حلّ جزء منه ضيفاً في إحدى قاعات متحف وقصر باغاتّي فالسِكّي في ميلانو الذي ذكره الكاتب في نفس الرواية، لأن كمال كان قد زاره عدة مرات، وقبل أن يموت أيضاً.
والمتحف مؤلف من 83 خزانة مُرقّمة، كل واحدة مخصّصة لفصل من الرواية وتحتوي على أغراض مختلفة، صور مُنظّمة في بعض الحالات بطريقة بانورامية، وفي حالات أخرى، بشكل اعتيادي، كما في الخزانة رقم 49، حيث تُعرض فيها مغسلة كقطعة من أثاث البيت.
وليس من الضروري قراءة الكتاب لاستيعاب المعروضات، وتأملها ومحاولة ترجمة مكنوناتها. ومع ذلك، من المفيد معرفة حبكة الرواية: البطل والراوي كمال، يسرد قصة حبّه وحياته مع فوسُون، إحدى قريباته التي يهواها في مطلع شبابه، وينفصل عنها في لحظة معيّنة لأنها لم تول اهتماماً كافياً لمشاعره، رغم أنه يبقى مرتبطاً بها، عاطفياً، لآخر يوم في حياته.
الخزائن التي يتكوّن منها "متحف البراءة"، مثيرة للاهتمام، ليست فقط للتجربة التي حقّقها باموق في البناء المتوازي للرواية والمتحف، ولكن أيضاً للفكرة التي أراد الكاتب أن ينقلها للقارئ والمشاهد من خلال عمله الاستثنائي هذا.
يشرح باموق ذلك في بيان متواضع عن المتاحف، ضمن قائمة مؤلفة من إحدى عشرة فكرة حول هذا النوع من المتاحف الضرورية حقاً، والبند الأول في البيان، يقول: "المتاحف الوطنية الكبرى، مثل اللوفر أو الأرميتاج، اتّخذت شكلها وأصبحت وجهة سياحية لا يمكن تجاوزها مع فتح أبواب القصور الملكية أمام الجمهور. هذه المؤسسات، التي أصبحت رمزاً وطنياً، تُقدّم تاريخ الأمة -باختصار، التاريخ- وكأنه أكثر أهمّية من قصص الأفراد. ومع ذلك، هؤلاء الأخيرين هم أكثر ملاءمة لتوثيق إنسانيتنا بكل تعقيداتها"، بينما يقول في البند الأخير: "مستقبل المتحف سيكون داخل منازلنا".
في واحدة من الصفحات الأخيرة من الرواية، عندما يتحوّل صوت الراوي إلى صوت الكاتب نفسه الذي يقوم بدور إحدى الشخصيات، يقول: "السيد كمال، الذي كان قد زار 5723 متحفاً في جميع أنحاء العالم لغاية وفاته، انتهز كل فرصة للذهاب إلى متحف باغاتّي فالسِكّي في ميلانو، أو بالأحرى "ليعيشه"، كما كان يقول، لأنه واحد من أهم خمسة متاحف في حياتي".
الخزانة رقم 51، تحمل عنوان "السعادة هي الوقوف بجانب الشخص الذي تحبّه"، والفصل من رواية "متحف البراءة" الذي يقابله، يبدأ هكذا: عندما وصلت إلى بَيْ أوغلو كنت سعيداً، ولم أتمكن من إخفاء تلك السعادة: فرح الحياة كان يغمر كل وجودي وأنا أحدّق في الواجهات المضيئة للمحلات والناس الذين يخرجون من السينما. مع أنني كنت أعرف أن فوسُون وزوجها كانا قد دعياني إلى منزلهما فقط لكي أستثمر بعض المال في أحلامهما السينمائية الغريبة، كان يجب أن أشعر بالذلّ والإحراج في تلك اللحظة، ولكن قلبي كان مفعماً بفرحة هائلة وكنت لا أبالي بهما".
في الخزانة رقم 53، التي تحمل عنوان "آلام قلب محطّم وحانق ليست مفيدة لأحد"، الفصل الذي يقابله في الرواية، يبدأ هكذا: "لم أنبس بكلمة خلال الفترة المتبقية من الأمسية. ما كنت قد اختبرته للتو، كان يسمى "خيبة الأمل في الحب": أعتقد أن هذا القلب الخزفي المكسور، الذي أعرضه هنا، سيجعل من الممكن لأي شخص يزور متحفنا أن يفهم معاناتي تماماً".
الخزانة رقم 13، والتي تحمل عنوان "حب، شجاعة، حداثة"، يسرد باموق في فصل الرواية التي يقابلها قصة العطر: "في إحدى الأمسيات كنا في فوآيِهْ، وسيبِل أهدتني قارورة عطر سبلين، اشترته في باريس، التي أعرضها هنا. مع أنني، في الحقيقة، لا أحبّ العطر، في صباح أحد الأيام، تعطّرت به لمجرّد الفضول، و فوسُون، بعد أن مارسنا الحبّ، لاحظت ذلك". والصورة الموجودة تحت الغراب، تعود إلى طفولة باموق، وتظهر فيها بعض نوافذ إسطنبول في الليل، عندما كان الطفل يستمتع بالنظر إلى غرف النوم في منازل أخرى، وصادف أن غراباً يقطع تأمله محلقاً فجأة. بينما السائل الأبيض في الكأس هو العرق، الذي يُعتبر في تركيا مشروباً وطنياً.
الخزانة رقم 14، بعنوان "الشوارع والجسور وميادين إسطنبول"، يبدأ فصل الرواية التي يقابلها، بهذه العبارات: "خلال إحدى محادثاتنا، فوسُون كانت قد قالت لي: "لم يكن مثل غيره من الرجال، في إشارة إلى معلّم المدرسة الثانوية الذي كان يحبّها، سألتها عما تعنيه مع هذا التصريح، لكنّها لم تجبني". تمّ تصميم هذه الخزانة من قبل باموق كمنصة مسرح، بدءاً من صورة عثر عليها لدى تاجر خردة، بالإضافة إلى كوب من الشاي، ومنفضة سجائر من الخزف "كوتاهية" (مسقط رأس الكاتب)، وعلبة سجائر ومشبك شعر "كان يعود" لفوسُون.
الخزانة رقم 25، بعنوان "معاناة الانتظار". يبدأ فصل الرواية الذي يقابلها بمونولوغ يعكس حالة القلق التي بدأ يعيشها كمال: "لم أستطع النوم حتى الصباح. كنت خائفاً من فقدان فوسُون". وهي تقريباً النقطة التي تتركه فيها فوسُون لأنه يرغب في الزواج من سيبِل، وفي نفس الوقت، اللحظة التي يشعر فيها الزائر بالحاجة للرجوع ثانية إلى الرواية والبحث عن أشياء كثيرة لربّما كانت فاتته لدى قراءته الأولى لها.