لتحقيق فيلمه الجديد، "شبكة الدبور"، ارتكز الفرنسي أوليفييه أساياس على قصّة حقيقية، عن 3 سجناء هربوا من كوبا، واتّهموا لاحقًا بالتجسّس، فسُجنوا أعوامًا عديدة. لكن سرد الأحداث عادي، وأداء الممثلين متوسّط، وأساياس لم يُقدِّم جديدًا. تمامًا كالأميركي جيمس غراي، في "أد أسترا"، المخيّب للآمال، كفيلمٍ عن الفضاء الخارجي، محاولاً تبيان ما هو نفسيّ وكونيّ وروحيّ، لكنه هوى صوب انعدام الجاذبية. أما "المرشّحة المثالية"، للسعودية هيفاء المنصور، فليس سيئًا كلّيًا، إذْ يمكن وصفه بالجيّد، لولا بعض عيوب السيناريو، من حيث المباشرة
والخطابية أحيانًا، بالإضافة إلى ضعف التمثيل في مَشَاهد عديدة.
هذه أفلام مُشاركة في المسابقة الرسمية للدورة الـ76 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2019) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (لا موسترا)"، معظمها دون المتوقّع أو المنتظر، على نقيض أفلام مختارة في برامج أخرى، أهمّ وأمتن، وإنْ كان عددها قليلاً، كـ"سيبيرغ" للأسترالي بينيديكت أندروز، و"ناضجون في الحجرة" لليوناني كوستا غافراس. الفيلمان معروضان خارج المسابقة، لأسبابٍ مجهولة، رغم أحقيّة كل واحد منهما بالمشاركة فيها. هذا يطرح أسئلة عديدة، رغم أنّ كوستا غافراس مُكرّم في المهرجان، بمنحه جائزة Jaeger-LeCoultre، "المجد للمخرج". لكن تكريمًا كهذا عن مجمل أعماله وحياته المهنيّة لا يمنع اختيار فيلمه الجديد للتنافس على "الأسد الذهبي"، أو على جوائز أخرى في المسابقة الرسمية.
"سيبيرغ" مأخوذ من أحداثٍ حقيقية، عبر فصلٍ من حياة الممثلة الأميركية جاين دوروتي سيبيرغ (1938 ـ 1979)، التي يبدو أنّها انتحرت في سيارتها، كما تقول العناوين في نهاية الفيلم، لكن المؤكّد أنّ أحدًا لا يعرف كيف توفّيت. في الفيلم، نرى كيف انهارت سيبيرغ (أداء رفيع جدًا لكريستين ستيورات)، ونتابع محاولات انتحارها، ما أدّى إلى فقدانها جنينها، ذا الشهرين من عمره فقط، ما زاد من اكتئابها، وسمَّم حياتها.
لأسبابٍ لها علاقة بتركيبتها الشخصية، المنفتحة والمتسامحة والمتعاطفة، كانت جاين سيبيرغ سخيّة في تبرّعاتها، وتمويلها مشاريع خيرية كثيرة بأموالٍ طائلة. هذا ناتجٌ ربما عن رغبة لديها في مزيدٍ من الشهرة، ولفت الانتباه. لذا، لم تتورّع عن تمويل منظّمة "الفهود السود"، التي كانت لها صلة مباشرة بها، في لحظة اضطرابات عنصرية بين البيض والسود، والمطالبة بحقوق السود في الولايات المتحدة الأميركية، في ستينيات القرن الـ20 تحديدًا.
المثير للانتباه أنّ جاين كانت على علاقة، صداقة وحب وجنس، مع آلن دونالدسن، أو حكيم عبد الله جمال، رئيس المنظمة وأحد أقارب مالكوم إكس، الذي كان مُراقبًا من "المكتب الفيدرالي للتحقيقات"، ما أدّى إلى مراقبتها، وتدمير حياتها، رغم عدم اقترافها أيّ جُرمٍ.
إلى ذلك، فإنّ ما قدّمه كوستا غافراس في جديده، "ناضجون في الحجرة"، لم يكن مفاجئًا، سواء على صعيد اتّساق الرجل مع نفسه وأفكاره اليسارية والإنسانية، أو على مستوى مسيرته المهنية، التي خدمت رؤيته السياسية دائمًا، من دون الغرق في السياسيّ على حساب الفنيّ.
المفاجأة متأتية من تقديمه فيلمًا على قدر كبير من الحيوية والتشويق والإثارة، رغم أنّه برمّته عن الاقتصاد والأرقام والميزانيات والمصارف، كفيلمه السابق "رأس المال" (2012). مع هذا، فإنّ جديده ممتع للغاية، وهو مقتبس عن كتاب بالعنوان نفسه، ليانيس فاروفاكيس، صادر عام 2017، وصوغه السيناريو والحوار مدهشٌ جدًا.
الأمر نفسه ينطبق على الاختيار الدقيق للممثلين، خصوصًا الممثلين الاثنين اللذين أدّيا الشخصيتين الرئيسيتين. كذلك تصوير مَشَاهد عديدة، رغم أنّ الأحداث كلّها تحصل في قاعات الاجتماعات، وأثناء المؤتمرات الصحافية، وفي مكاتب الوزراء، وغيرها من الأمكنة المغلقة. كذلك مشهد الختام الراقص، حيث يبيّن كوستا ـ غافراس كيف أنّ رئيس الوزراء اليوناني الشاب ألكسيس تسيبراس (ألكسندروس بوردوميس) ظلّ، بعد المفاوضات المضنية تلك، كفأرٍ في مصيدة، لا حول له ولا قوّة، إزاء تشدّد الدول الأوروبية الكبرى في الاتحاد الأوروبي، وجبروتها وتعنّتها إزاء اليونان.
في المحصّلة النهائية، هذا فيلم يكشف الكيفية التي تتصرّف بها الدول الكبرى، احترامًا لماضيها وتاريخها وحضارتها، من دون غطرسة أو شوفينية أو نرجسية. فهو عن أساليب التفاوض، والدفاع عن الحقوق، وتغليب مصلحة الجموع على المصلحة الفردية، وإنْ أدّى الأمر إلى الرضوخ للضغوط، في النهاية. فالمهم، "كيف تخوض معركتك بشرف".
يرتكز "ناضجون في الحجرة" على يانيس فاروفاكيس (خريستوس لوليس)، مؤلّف الكتاب (الذي اقتُبس الفيلم عنه)، ووزير الاقتصاد في حكومة تسيبراس، الذي اجتهد بكلّ ما لديه من طاقة ومعرفة وخبرة، وبإخلاص شديد لبلده وأهله، وعن دراية وافية بأمور الاقتصاد، لتجنيب اليونان كارثة كادت تؤدّي إلى إغلاق المصارف، وإعلان البلد إفلاسه، وخروجه من الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن اندلاع أعمال عنف وشغب، وانتشار الفوضى، وصعود اليمين المتطرّف. حاول يانيس فاروفاكيس الصمود طويلاً أمام جبابرة الاتحاد الأوروبي، ورؤساء الدول الأوروبية، المطالبين جميعهم بتخفيض ديون اليونان، الناجمة أساسًا عن ترحيل ديون كثيرة للدول والمصارف الأوروبية الكبيرة إلى الاقتصاد اليوناني. هناك أيضًا الإقراض بفوائد عالية، ما أغرق البلد في كساد دائم.
في النهاية، اضطر الكاتب والاقتصاديّ والوزير إلى تقديم استقالته، لأنه لم يفلح في تمرير ما تمنّاه، فالضغوط عليه أقوى.