"كم أنت وحدك"

15 مايو 2017

(ياسر صافي)

+ الخط -
عزيزي الموظف الحكومي من فئة الراتب المتدنّي: اعلم، يا صديقي عاثر الحظ أن أمامك لحظة شديدة السواد، عليك أن تتهيأ لها جيدا، وتحشد كل طاقتك النفسية على مواجهة قسوتها، حين ينهار ويتداعى كل شيء أمام ناظريك، مثل مبنىً عتيق قرّرت السلطات إزالته تفجيرا بالدنياميت اختصارا للوقت، أو على الأقل، يخيّل لك سهولة حدوث ذلك الانهيار بمنتهى البساطة. ومن دون أن يتأثر شيء في الكون، الذي سيواصل مساره غير عابئٍ بك، سيحدث لك ذلك حين ينهار دفعة واحدة، وبدون مقدماتٍ كثيرة، إحساسك بالأمان الوظيفي، وبتوفر دخل شهري يؤمن الحد الأدنى من احتياجاتك المعيشية، ويقيك شر السؤال ينتزع بلا رأفة من فوق رأسك سقف الطمأنينة الضروري لاستقرارك النفسي. تواجه، على نحو مباغت، سؤالا مؤجلا لم يكن حاضرا ضمن سلم أولوياتك حول القادم المجهول الغامض المثير للريبة، بعد أن تدرك، وأنت على وشك مواجهة مرحلة التقاعد بأنك تفقد، وبجرّة قلم، جزءاً كبيراً من دخل شهري معقول.
في لحظة صادمة عصيبة كهذه، ينتابك إحساسٌ مفجع مرير بالعجز وقلة الحيلة والأسى والحيرة والارتباك والرعب الحقيقي الذي يستولي على جوارحك، ويحيلك إلى مجرد شخصٍ مذعور، تغمرك كذلك خيبة أمل كبرى إزاء كل شيء، تشعر بالخذلان والقطيعة والرغبة في الموت حلا وحيدا لمعضلة العيش البائسة. لست مضطراً، بطبيعة الحال، إلى أن تختبر مشاعر الذل والهوان والخيبة هذه، إذا كنت موظفا حكوميا بسيطا في السويد مثلا، لأن الأنظمة والقوانين في تلك البلاد تكفل لك ظروف تقاعد تحفظ إنسانيتك وكرامتك وشيخوختك، بحيث تعيش أيام عمرك الأخيرة عزيزا كريما، تحظى بالتقدير والرعاية والاهتمام أينما حللت. في وسائل النقل العامة لك الأولوية في المقاعد المتوفرة والتذاكر المجانية أو المخفضة، ترتاح في الحدائق والمتاحف والمسارح ودور الأوبرا، وإذا شئت تبديد وحشة شيخوختك وقطف ثمار تعبك في سنين خلت، تغادر معتمرا طاقية تقيك حر الشمس، مستكشفا بلاد الدنيا، مدعوما بكل أشكال التسهيلات التي يمكن تخيلها ما يوفر لك متعة الاسترخاء والتأمل والمعرفة والدهشة من جديد. أما إذا تعرّضت لوعكة صحية أو سقطت، لا قدّر الله، رهينة مرضٍ ما سوف تهب الأجهزة المختصة، لتقدّم لك أجود أنواع الخدمات الصحية الممكنة، تنفيذا لشروط تأمينك الذي يبيح لك ظروف بقاء أفضل، من دون منةٍ من أحدٍ، بل ممارسة بديهية لحقوقك الأساسية فردا في مجتمعٍ بذلتَ سنين عمرك فيه، عملا وإنتاجا وحضورا.
يحدث ذلك وأكثر فقط، إذا كنت محظوظا بما يكفي كي تولد خارج هذه الجغرافيا الغاشمة في بلاد أكثر رأفة لا تقتات على نزف روحك، وأيام عمرك مثل غولة بأنياب حادة تأكل أولادها بحكم العادة فقط. وبما أنك لست محظوظا بالمرة، فقد وجدت في هذه البقعة منزوعة العدالة الاجتماعية، وما لم تكن وريثا لثروةٍ هائلةٍ غير قابلة للزوال، أو مدعوما بشبكة علاقاتٍ مع متنفذين يذلّلون الصعب، ويخلقون الفرص الدسمة، من أجلك، عليك في لحظةٍ ما مواجهة مصيرك الحتمي المتربص خلف كاونتر في مؤسسة الضمان، حين يبلغك موظفٌ غير مبتسم بالدولة، ستتكفل بما يسدّ رمقك من الخبز الحاف.
وعليه، افرح، صديقي الموظف البائس، تبشرك الدولة بأنك لن تموت جوعا، فعلا ما الداعي لمصاريف وبهورة إضافية، كأن تملأ سيارتك، كلما فرغت من البنزين. أصلا ما الداعي للسيارة في ظل هذه الأزمة الخانقة، أو أن تسدّد فواتير الكهرباء والماء؟ ما الداعي لكل هذه الكماليات، أيضا ما جدوى أن تمرض، وترهق خزينة الدولة بمبالغ باهظة. لماذا لا تنتقل إلى الرفيق الأعلى بخفة وهدوء، وبلا أدنى جلبة، بعد أن أصبحت عبئا على عائلةٍ ستضيق ذرعا بك.
أنصحك باختصار الطريق، لأنك ببساطة شديدة (كم أنت وحدك)، لا أحد يحسّ بمدى حرقة قلبك. مت يا صديقي. ولتكن هذه مساهمتك المتواضعة في تقليص النفقات والتوفير على خزينة الدولة.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.