"قانون قيصر": أميركا تفتتح البازار الدولي في سورية

17 يونيو 2020
برزت التأثيرات الاقتصادية قبل بدء تطبيق القانون(عارف وتد/فرانس برس)
+ الخط -
بعد غياب طوعي طويل، تعود السياسة الأميركية رسمياً، اليوم، إلى صلب الصراع على سورية من بوابة "قانون قيصر" وتحت شعار "حماية المدنيين السوريين"، لكن ضمن استراتيجية واضحة لعرقلة أي محاولة روسية لإنهاء النزاع والاستفادة من المكاسب من دون شروط أميركية مسبقة. إدارة الرئيس دونالد ترامب تُدشن مرحلة جديدة من المقاربة الأميركية حيال سورية، وهي مقاربة غير مضمونة النتائج ومن دون إطار استراتيجي أوسع لبلورتها أو آليات تنفيذ قوية لتطبيقها عملياً.

 بعد ست سنوات من المداولات التشريعية في الكونغرس ومع البيت الأبيض، يدخل قانون "قيصر" حيّز التنفيذ، اليوم الأربعاء، في ظل حراك سياسي مستمر وأوضاع اقتصادية صعبة في سورية والمشرق العربي. الفكرة الرئيسية لمشروع قانون "قيصر لحماية المدنيين في سورية" كانت تتضمن اقتراحات مثل مأسسة حظر جوي فوق سورية، لكن استحالة تمريرها كقانون تشريعي نتيجة عدم وجود شهية أميركية للتدخل أدى إلى خفض سقف التوقعات، وفي نهاية المطاف تم تمرير أجزاء من مشروع "قانون قيصر" ضمن قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2020. نقطة التحول هذه أتت في ديسمبر/ كانون الأول الماضي بعد تبلور إجماع حزبي في مجلس الشيوخ لوقف التخبّط في سياسة إدارة الرئيس دونالد ترامب حيال سورية بعد سلسلة أخطاء متكررة، لا سيما تمهيد الطريق لتوسيع النفوذ الروسي في سورية بعد إعطاء ضوء أخضر ضمني للتوغل التركي شرقي الفرات في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. هذا القانون ينتهي مفعوله بعد خمس سنوات، أي بعد انتهاء ولاية ترامب الثانية في حال فاز في الانتخابات الرئاسية في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

"قانون قيصر" في باطنه إقرار بأن الحرب السورية انتهت والسعي الآن هو للاحتفاظ بالمكاسب الأميركية والتركية، عبر محاولة حماية المناطق تحت سيطرتهما من هجوم روسي محتمل واستثنائها من العقوبات الأميركية، وبالتالي فإن واشنطن لن تعطي موسكو مخرجاً لائقاً من هذا النزاع من دون تلبية الحد الأدنى من شروطها. هذا الفيتو الأميركي سيرخي بظلاله على الشأن السوري على الأقل حتى الانتخابات الرئاسية السورية في العام المقبل، وبالتالي يفتتح "قانون قيصر" البازار الدولي بين القوى المؤثرة في سورية حول تقاسم النفوذ.

ويكرّس القانون في مضمونه ثوابت السياسة الأميركية حيال سورية منذ عام 2011، أي عدم اللجوء إلى خيارات عسكرية لتحقيق الأهداف، باستثناء الحرب على الإرهاب وفي حالة الردع، وعدم التورط في الحرب الداخلية السورية. كما يطلب القانون من الرئيس رفع تقارير إلى اللجان المعنية في الكونغرس حول "الفعالية المحتملة والمخاطر والمتطلبات اللوجستية لتعزيز حماية المدنيين داخل سورية"، وهذه خطوة تقييمية تبدو لتأكيد هواجس التدخل في واشنطن التي تظهر بشكل واضح في نص القانون، الذي يؤكد أن لا شيء في مضمونه "يجوز تفسيره على أنه تفويض لاستخدام القوة العسكرية". وبالتالي تلجأ واشنطن إلى الدبلوماسية القسرية عبر عقوبات اقتصادية تهدف إلى تغيير الحسابات الروسية ودينامية الصراع الخارجي في سورية تحت عنوان "مطالب داخلية سورية"، تبقى قابلة للتفاوض بالنسبة للأميركيين أكثر من المكاسب الاستراتيجية.

القانون ينصّ على أن العقوبات غايتها "إجبار حكومة بشار الأسد على وقف هجماتها القاتلة على الشعب السوري ودعم الانتقال إلى حكومة في سورية تحترم سيادة القانون وحقوق الإنسان والتعايش السلمي مع الجيران"، ويشير إلى "حكومة بشار الأسد" من دون وضع تنحّيه بين شروط وقف مفاعيل العقوبات. هذا يعني أن المطالب الأميركية من الروس أبعد من تقليص النفوذ الإيراني في سورية الذي لا تمانعه موسكو، إلى وقف استهداف المدنيين وإطلاق سراح المعتقلين وضمان عودة اللاجئين ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب. وهي مطالب يمكن لموسكو تلبيتها ضمن إخراج روسي يرسم قواعد اللعبة.

على وزارة الخزانة الأميركية، بحسب القانون، تحديد ما إذا كان المصرف المركزي السوري مؤسسة مالية تنشط في غسيل الأموال ورفع تقريرها إلى اللجان المعنية في الكونغرس، بالتالي يترك القانون حسم هذا الأمر لإدارة ترامب. وهذه مرونة تطلبها عادة الإدارات الأميركية خلال التفاوض مع الكونغرس. كما لدى الرئيس صلاحية تعليق مفاعيل هذا القانون جزئياً أو كلياً لفترات قابلة للتجديد "إذا قال الرئيس للجان المعنية في الكونغرس إن مثل هذا الإعفاء يخدم مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة". وهذا يعطي ترامب، أو أي رئيس قد يأتي بعده، مرونة في التفاوض مع روسيا والتساهل مع حلفاء واشنطن في دول الجوار في ما يتعلق بالشأن السوري.



يستهدف القانون "الشخص الأجنبي" الذي يوفر الدعم المالي والمادي والتكنولوجي لحكومة النظام السوري كأفراد أو مؤسسات، ويشمل تعريف "الشخص الأجنبي" بأنه "مقاول عسكري ومرتزقة وقوة شبه عسكرية تعمل عن علم بصفة عسكرية داخل سورية لصالحها أو نيابة عن حكومة سورية وحكومة روسيا وحكومة إيران". كما تركز العقوبات على "من يوفر أو يبيع للحكومة السورية السلع والخدمات والتكنولوجيا والمعلومات" التي تسهّل الإنتاج المحلي للغاز الطبيعي والمنتوجات البترولية، فضلاً عمّن يوفر الطائرات أو قِطَعها التي تستخدم لأغراض عسكرية، وتقدم خدمات كبيرة في البناء أو الهندسة. تتضمن هذه العقوبات تجميد الأصول في أميركا أو التي قد تقع تحت سيطرة أميركية بالإضافة إلى منع زيارة الولايات المتحدة.

يتكون "قانون قيصر" من عنوانين عريضين، الأول يتعلق بحماية المدنيين عبر الحد من قصف الطائرات السورية والروسية للمدنيين وتوفير وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة والسماح لسكانها بالتحرك بحرية، وذلك ضمن محاولة أميركية لإيجاد توازن يمنع الحسم العسكري في إدلب وتعزيز الأمر الواقع فيها. الهدف الأميركي في هذا السياق، هو تعزيز تقاطع المصالح الأميركية - التركية لإبعاد أنقرة عن موسكو. لكن أفق هذه المقاربة محدود لأنه يعتمد إلى حد كبير على مدى تجاوب روسيا مع الضغوط الأميركية، فيما قد لا تكون تركيا مستعدة للذهاب بعيداً في انحيازها لأميركا، بسبب مصالحها المتجذرة مع روسيا ونتيجة دعم واشنطن الثابت للأكراد في سورية. وقد تجد الإدارة الأميركية نفسها مكبّلة، إذا قررت موسكو قلب الطاولة وإعادة إطلاق عملية عسكرية في إدلب.

العنوان الثاني يتعلق بالمسار السياسي عبر إطلاق سراح المعتقلين ومنح منظمات حقوق الإنسان الدولية حق الوصول الكامل إلى السجون ومراكز الاعتقال، وضمان "العودة الآمنة والطوعية والكريمة" للاجئين السوريين و"مساءلة مرتكبي جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد، بما في ذلك المشاركة في عملية موثوقة ومستقلة للحقيقة والمصالحة". لكن المساعدة الأميركية في هذا السياق تقتصر على السماح للسلطات الفيدرالية بالمساعدة في جمع الأدلة لدعم جهود المؤسسات الدولية التي تجري تحقيقات جنائية، وفي المقابل يكتفي القانون بالتعهد بأن لا مساعدات قضائية لسورية طالما بشار الأسد في الحكم. هامش التحرك الأميركي محدود في المسار السياسي كما نصّ عليه القانون ولا يمكن أن يحصل عملياً من دون تعاون روسي.

تداعيات "قانون قيصر" بدأت عملياً منذ إقراره، نهاية العام الماضي، كما أثبتت الأحداث خلال الأشهر الماضية، في التوتر الروسي ـ الإيراني، والنزاع بين بشار الأسد ورامي مخلوف، وإعادة اصطفاف تركي أكثر انحيازاً للأميركيين، وتظاهرات في السويداء ودرعا والجولان المحتل، وانخفاض في سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي في كل من لبنان وسورية. كما ساهم انتشار فيروس كورونا بطبيعة الحال في تعميق حجم الأزمة الاقتصادية السورية.

في ظلّ العقوبات الأميركية القائمة أصلاً على روسيا وإيران وبالتزامن مع توتر صيني ـ أميركي متزايد، فإن هذه العقوبات لن تؤثر إلى حدّ كبير على قرار موسكو وطهران وبكين، للعب أدوارهم المختلفة في سورية، لكنها ستزيد الضغوط الاقتصادية على النظام السوري. "قانون قيصر" يوجه رسالة إلى دول الجوار التي كانت تفكر بالتقارب مع النظام السوري والتعامل معه تجارياً، مثل لبنان والأردن والعراق والإمارات وحتى تركيا التي توسطت روسيا معها لفتح قنوات حوار مع دمشق. يبقى عامل الوقت لصالح الأميركيين في ظلّ تخبط الروس في مشاكل اقتصادية قد تعرقل مسار إعادة الإعمار في سورية، لكن لا توجد ضمانات لنجاح "قانون قيصر" ولا نفس طويل في السياسات الأميركية.