"فلتسقطوا عني جواز السفر"
لا يمكن لشخص أوروبي، أو أميركي، أن يفهم كيمياء العلاقة التي تربط السوري بجواز سفره. لا يمكن حتى لعربي، غير سوري، أن يفهم هذا، فما بالك بالأوروبي. يعرف الأوروبي أنه إن فقد جواز سفره فبإمكانه الحصول على غيره خلال ساعتين على الأكثر، سواء أكان في بلده أم في بلد آخر من بلاد العالم الواسعة. الحصول على جواز سفر جديد يشبه شراء سلعة ما، سهل ومتيسّر ومتاح دائماً. لهذا لم يفهم عليّ صديقي الإيطالي، وهو يرى معاناتي لضياع جواز سفري، مقترحاً أن أذهب إلى سفارة بلدي في القاهرة، وأطلب جوازاً جديداً، فاقترحت عليه أن آخذه في نزهة إلى محيط السفارة السورية، ليرى المشهد بأم عينه، حيث يتجمع مئات خارج سور السفارة، والباب الحديدي الضخم يحرسه رجل ضخم أيضاً، يبيح لنفسه أن يرفع صوته في وجه أي سائل، أو محتج على طول الانتظار. وفي الطريق إلى حيث المشهد، حدّثته عن الإجراءات الطويلة والمعقدة التي يستلزمها التقدم بطلب الحصول على جواز سفر جديد. وحين أخبرته عن مدة الحصول على الجواز، والتي تراوح بين أربعة إلى ستة أشهر، في حال الموافقة على منحه، أصابه الذهول، وسأل مستغرباً: موافقة؟ وهل يمكن لدولة أن تمنع مواطناً من مواطنيها من الحصول على وثيقة سفر؟
يعرف صديقي الإيطالي جيداً ما يحدث في سورية، وعاش وقتاً طويلاً متنقلاً بين بلادنا العربية (الرائعة) ويعرف أحوالها، لكنه لم يستوعب فكرة أن تمنع دولة مواطناً من الحصول على وثيقة سفر، قلت له: دولنا تمنع عنّا التعليم والطبابة والطعام والشراب والفرح والحزن والموت بسلام، وتمنع عنا حتى الدفن بطريقة لائقة. حدثته عن رجل سوري توفي في القاهرة، ولم يستطع ابنه الحصول على تصريح بدفنه من السلطات المصرية المختصة بدون إشعار من السفارة السورية بالموافقة على دفنه، السفارة رفضت منح الابن التصريح المطلوب، لأنه معارض معروف لديهم. احتاج الأمر أياماً عديدة، حتى تجرّأ شيخ مصري على دفنه على مسؤوليته في إحدى مقابر القاهرة! لم يصدق صديقي الإيطالي ما يسمع. أكملت: فقدان جواز سفري لا يعني فقط المعاناة، في سبيل الحصول على جواز آخر، يعني أيضاً المعاناة في سبيل الحصول على إقامة مصرية جديدة، بعد الحصول على جواز جديد، ثم حكيت له عن إجراءات الإقامة، وكيف حصلتُ عليها، وماذا يعني بقائي بلا إقامة أو بإقامة سياحية. قال: كل هذا كي تقيمي في بلد عربي؟
حدّثته عن مآسٍ سورية مرعبة، حصلت بسبب موضوع الإقامة، وإجراءات الدخول إلى مصر، وغيرها من البلاد العربية وبلاد العالم في القارات كلها، بما فيها قارته. حدثته عن قوارب الموت وتجارة التهريب والسمسرة بأرواح السوريين والفلسطينيين. حدثته عن حرس الشواطئ العربية والأوروبية، وعن مافيات التهريب العابرة للجنسيات والبلدان. كان يسمع مذهولاً كل هذا، وكأنه يسمعه أول مرة، وهو المتابع لكل ما يُكتب عن سورية، بحكم عمله الصحافي وتمكّنه من اللغة العربية. قال لي أخيراً: أتعرفين: صرت أتمنى أن لا يعود جواز سفرك لك، في حال فقدانه ستضطر الحكومة الإيطالية إلى منحك جواز سفر إيطالي مؤقت. وبعد ثلاثة أعوام، تحصلين على جواز دائم، هكذا ينتهي ذعرك وهاجسك من فقد الجواز!
نسيت أن أخبركم، كان جواز سفري في القنصلية الإيطالية التي تم تفجيرها في القاهرة، للحصول على تأشيرة للمشاركة في ورشة عمل ثقافية في روما. جواز سفري نفسه سبق أن فقدته حين خطف أحدهم حقيبة يدي في القاهرة، وكان الجواز بداخلها. يومها تقدمت ببلاغ للشرطة عن فقدان الجواز، بعد يومين اتصلوا بي أن الجواز وجد مرمياً في ميدان طلعت حرب. الجواز السوري لا يغري أحداً بسرقته. الجواز نفسه الذي اختفى أياماً في بيروت، حين احتجت تمديد إقامتي في آخر زيارة لي، وشهد أصدقائي هناك تصاعد قلقي. الجواز كان في الغرفة نفسها التي طالها التفجير، لكنه ورق، والورق لا يتفتت بفعل التفجير كالجسد البشري، الجواز عاد إليّ مختوماً بالتأشيرة، عاد برائحته التي أعرفها جيداً، الرائحة التي تمنع عني الحلم بعالم عابر للجنسيات.