يعود المخرج الفرنسي، فيليب فوكون، في فيلمه الجديد "فاطيمة" إلى تسليط الضوء على حياة المهاجرين من أصول مغاربية في فرنسا، لكنه لا يكتفي هذه المرّة بطرح السؤال حول مآلات الهوية والاندماج في المجتمع الفرنسي، بل يسعى إلى رصد حيوات عديدة في سيرةٍ واحدة تكون فيها العائلة موضوع البحث.
يستند فوكون في "فاطيمة" إلى السيرة التي كتبتها الروائية المغربية فاطمة الأيوبي في سبعينيات القرن الماضي، والتي حملت اسم "صلاة إلى القمر، باسم كل فاطمة". وقد حرص المخرج على اختيار ممثلّة لا تمتلك في رصيدها محاولة تمثيلية واحدة، فكانت ثريا زروال السيدة الأربعينية التي تعمل في الحقيقة عاملة تنظيف منزلية في إحدى ضواحي مدينة ليون الفرنسية، هي فاطيمة بطلة الفيلم مع ابنتيها.
فاطيمة امرأة من أصول جزائرية، هاجرت إلى فرنسا منذ حوالي عقدين من الزمن، تركها زوجها وتزوّج من سيدة ثانية بعد عودته إلى بلاده، تعمل في تنظيف البيوت لتؤّمن حياة أسرتها، تعيش في شقة HLM (سكن يُمنح لذوي الدخل المحدود) في إحدى ضواحي مدينة ليون مع ابنتيها: نسرين (18 عاماً) أنهت البكالوريا بنجاح باهر وتتحضّر للالتحاق بكليّة الطب، وسعاد الأصغر سنّاً (15 عاماً) طائشة وغير متصالحة مع أصولها وهويتها وتخجل من عمل والدتها.
تجد فاطيمة صعوبة في التأقلم مع الحياة الفرنسية، لكنها لم تتوان عن بذل جهد كبير في السعي لمماشاة النمط الغربي في الحياة اليومية، وهي تتابع دروساً مجانية لمحو الأمية وتحاول جاهدة أن تربّي ابنتيها بشكل يليق بسمعتهنّ، من هنا، لا يبدو مشهد فاطيمة - التي تنبّه على البنتين صباحاً ألّا تنسيا إلقاء السلام على الجارة وتؤنّبهما إن لم تفعلا- عبثياً؛ إذ يسعى فوكون إلى رسم صورة المرأة التي تعاني لكنها تصرّ على الابتسام، المثال على تمتّعها بقيم أخلاقية تعمل على تلقينها لجيل وُلد في فرنسا واكتسب نمطاً معيّناً من التعامل مع الذات ومع الآخرين.
لا تبدو الحبكة التي اختارها فوكون روائية بامتياز، إذ يغلب عليها طابع السرد الوظيفي الذي يتيح للمشاهد متابعة يوميات العائلة المهاجرة، حيث فاطيمة محورها الأساسي، وهو ما يفسّر اختيار المخرج لوجوه غير معروفة في مجال التمثيل، حتى تكون المقاطع جرياناً منظّماً لحياة طبيعية فيها ما فيها من مشاكل تصادف كل العائلات.
يعالج المخرج في سيرة فاطيمة مسألة اندماج الأقليات، خصوصاً في ما اصطُلح عليه في فرنسا "الجيل الثالث من المهاجرين" وقدرتهم على اختراق المعاش الصعب الذي قولبته حدود الإسلاموفوبيا والعنصرية في بلد تتعقّد فيه الأمور الاقتصادية والاجتماعية يوماً بعد يوم. في أحد المشاهد، تبّرر فاطيمة رفض سيدة فرنسية كانت تنوي تأجيرها شقّة للسكن بوضعها الحجاب على رأسها، وفي مشهد آخر تضع إحدى السيدات البرجوازيات مبلغاً من المال للتأكّد ما إذا كانت فاطيمة ستسرقه أثناء تنظيف المنزل.
لا يمكن الفصل بين صراع الأجيال الناتج عن القطع الطبيعي مع البيئة/ المكان والبحث عن أجوبة شافية تتعلّق بالهوية التي تطبع جيلاً من أبناء المهاجرين في الضواحي الفرنسية. لذلك يبدو السرد الذي لجأ إليه فوكون في فيلمه محاكاة جمعيّة تتوجّه إلى عائلات كثيرة، ليست فاطيمة إلا مثالاً فردياً عليها.
وقد ساعد كون فاطيمة عاملة تنظيف في الحياة الحقيقية على الخروج ببورتريه عفوي غير متزلّف، يتماشى مع المشاهد الممسرحة بتلقائية، كما لو أنّ ثريا تعيش مقاطع من حياتها الطبيعية. ويُحسب لفوكون تدعيمه لمشاهد القطع الهوياتي بتكراره مشهد فاطيمة التي تجلس بعد حادث (وقعت على ظهرها أثناء عملها في أحد المنازل) لتكتب بالعربية ما لا تستطيع شرحه بالفرنسية، فتكون الأم حاضرة في ذاتها المغاربية وفي ذوات ابنتيها الفرنسية.
ثمّة مشاهد كسرت الإيقاع في النسق العائلي، كتوجّه سعاد إلى أمها بالقول "أفضّل أن أسرق وأذهب إلى السجن بدلاً من أن أعمل في تنظيف البيوت" والاتصال المكاني الذي جسّده الأب بعودته للاطمئنان على بناته، ثم تمرير ملاحظة شفهية لسعاد "التدخين عادة سيئة للنساء".
تلك المشاهد لم تكن إلا تعبيراً عن التشظي الذي تعاني منه العائلة، ويصبح عند فوكون التساؤل عن الجو الذي يحيط بالعائلة والعلاقة بين الرجال والنساء والتربية الدينية وغيرها من الأمور، مسار بحث طويل.
المخرج هنا يكتفي بسرد صوري لسيدة تعيش في الظل، من دون اللجوء إلى تكثيف التطوّر السيكولوجي للشخصيات، كما في فيلمه السابق La désintégrastion (انحلال) الذي يروي سيرة شباب الضواحي الذين اتّجهوا بعد يأس مزمن إلى تنظيمات جهادية قتالية. وهو ما عبّر عنه المخرج في مهرجان "كان" الأخير بقوله "نسمع صوت شجرة تسقط بشكل أقوى من صوت غابة تنبت. في فيلمي الماضي سقطت شجرة. في "فاطيمة" الغابة تنبت ويُسمع صوتها جيداً، لم تعد في الظّل".
اقرأ أيضاً: كامل داوود.. ثأر الغريب من كامو