"عوالم عابرة": مراسل ميداني لعالم باريس السفلي

12 فبراير 2018
(من المعرض، تصوير: جوليا مانفييري)
+ الخط -

"دائماً وفي كل مكان، حتى القبيح له جوانبه الفاتنة، لذا سيكون من المثير سبرها في الأماكن التي لم يلاحظها أحد من قبل". هكذا كان يقول هنري دو تولوز- لوترك (1864-1901)، الفنان المرهف والراصد المذهل للحياة البوهيمية في أواخر القرن التاسع عشر، حياة الليل في باريس، في مقهى شانتان الذي كان أحد زبائنه الدائمين، المكان الملائم، كما كان يقول، لاكتشاف ذلك الغموض المدهش المُكوّن من سلسلة لا متناهية من الجمال والقبح والتنافر.

وقد خصّص القصر الملكي في ميلانو معرضاً مميّزاً له بعنوان "تولوز- لوترك.. عوالم عابرة"، والذي سيبقى مفتوحاً حتى 18 شباط/ فبراير الجاري. يضمّ المعرض أكثر من 250 عملاً، موزّعاً حسب الثيمات، بما في ذلك 35 لوحة زيتية، و22 لوحة مائية، ومطبوعات حجرية (ليتوغرافية)، ونقوشاً بحمض النتريك (التنميش أو أكوافورتِهْ)، وجميع الملصقات التي صمّمها الفنان.

عدد كبير من هذه الأعمال قادم من "متحف تولوز- لوترك" في مدينة ألبي الفرنسية، الذي تتولى إدارته دانيال ديفينتش، وهي القيّمة على المعرض أيضاً مع كلاوديا زيفي، ومن متاحف عالمية ومجموعات خاصّة، مثل "غاليري تيت" في لندن، و"المعرض الوطني للفنون" في واشنطن، و"متحف بوشكين" في موسكو، و"متحف الفنون الجميلة" في هيوستن، و"متحف الفنّ" في ساو باولو، و"المكتبة الوطنية الفرنسية" في باريس.

حساسية تولوز- لوترك، التي كان يخفيها بتعنّت خلف وضعيات جسورة وغريبة، والتي ترحّب بالزائر عند مدخل المعرض عبر صور فوتوغرافية كبيرة، أتاحت له الولوج إلى قلب مدينة جامحة، شهوانية وتنبض بالحياة، مدينة باريس، حيث كل الدلائل، من وصول السينما، إلى السيّارات والدرّاجات الهوائية وغيرها من الابتكارات، كانت تنذر بتغيّرات حادّة ومحمومة في أوروبا وباقي أرجاء العالم.

الفنّ كان قد بدأ تمثيل الحياة اليومية؛ الواقع، والأبّهة والعظمة "الاستعمارية"، والانغماس في الملذات، أو باختصار، حياة المدينة العصرية، حياة بدأ تولوز- لوترك يجسّدها بتفاصيل بسيطة، لكنّها تحاكي سرعة ودقّة اللقطة الفوتوغرافية، وخلال فترة وجيزة، جعل من نفسه "مراسلاً ميدانياً" لعالم باريس السفلي الذي يغصّ بالمحافظين والحالمين، وبالتنانير التي ترفرف، وبالملابس الداخلية والأفخاذ الرشيقة، وبالأجواء الممزوجة برائحة التبغ والعرق، وبالضجيج والصرخات الماجنة بين جدران "مولان روج".

لم يكن يخشى أن يُشاهد "بين هؤلاء"، ولم يكن يخشى أن تربطه صداقات مع أكثر الناس تهميشاً، مثل الراقصات اللاتي كنّ يجعلن النفوس تثمل على وقع رقصة اﻠ "كانكان".

هنا، بين هذه الأعمال المُلهِمة، تجد كل "العوالم العابرة"، النهاية المضطربة للقرن الذي عايشه الرسام البوهيمي ببصيرة نافذة وشغف قلّ مثيله، مُعبّراً عنه برسومات ولوحات وملصقات، استفزازية وواقعية، خلاصة متطرّفة للشكل واللون والحركة.

في هذه الأجواء الحالكة من الحياة الليلية، كان تولوز- لوترك يتحرّك بقامته القصيرة، 152 سم، بحثاً عن الإلهام، والتقاط المواضيع المفضّلة لديه، والعثور على جوانب، عكرة في بعض الأحيان، ببساطة مدهشة، لا أحد قبله كان قد سردها بتلك المصداقية التي لا تحتاج إلى مزيد من الإيضاح. في تلك البيئات من الأضواء الخافتة والظلال الناعمة، كان يجد ملاذاً للتخفيف من التشوّه الذي رافقه منذ نعومة أظفاره.

كان تولوز- لوترك قد ولد بمرض وراثي نادر، ويرجع ذلك إلى زواج الأقارب، الذي أعاق نمو الأطراف السفلية، بسبب تنكّس العظام. في سن الـ14 كسرت ساقه، فاضطرّ دائماً إلى التحرك مستنداً على عكاز. وهو ينحدر من أصول نبيلة، وكان قد ورث من والده الكونت ألفونس دي تولوز- لوترك، شغف الرسم. وبعد مرحلة التعليم الكلاسيكي، ابتدع أسلوبه الخاص في الرسم حيث استطاع بواسطته ابتكار صور متجدّدة وملهمة للواقع الذي كان يعيش فيه وللمستقبل.

قضى تولوز- لوترك معظم حياته القصيرة (37 عاماً) في حي مونمارتر، في شارع أمبرويس، بالقرب من دور الدعارة، وأصبح ضيفاً مواظباً على كباريه "مولان روج"، و"مولين دي لا غاليت" والنوادي الأخرى. كان يحبّ رسم الممثّلات والمطربات وراقصات الكانكان، وملصقاته الرمزية، ذات الألوان الفاقعة والخلفيات المسطّحة، المستوحاة جزئياً من المطبوعات اليابانية، كانت تزيد أكثر فأكثر من شعبيته في تلك البيئة، ومن بين هؤلاء نذكر جين أفريل، التي خلّدها في أكثر من لوحة، ثم إيفيت غيلبرت، اللتين كانتا أيضاً صديقتيه.

عَرْض مسار المعرض يتمّ من خلال نظرة استطلاعية على عائلة تولوز- لوترِك، والعديد من الشهادات الفوتوغرافية، وهو وسيلة لم يستخدمها، ولكن من الغريب أنه كان يحبّ أن يتم تصويره دائماً بطريقة استفزازية وغير رصينة. ثم تتواصل الرسوم التوضيحية والرسومات واللوحات التي تنتمي إلى فترة تشكيله في البدايات، عبر رسوم لخيول متحرّكة وغيرها من الحيوانات، ليركّز بعدها على البورتريهات، واحدة من أكثر الخصائص المميّزة في أبحاثه، من بينها لوحة "هيلين فَرِيْ" (1889)، و"امرأة في حديقة السيد فورِسْت" (1891).

ثم يأتي القسم المخصّص للملصقات الشهيرة وأغلفة المجلات، وهو النوع الذي كان تولوز- لوترِك أول من بادر إلى رسمه وترويجه، تجاورها أيضاً بعض المطبوعات اليابانية النادرة والثمينة، التي كانت معروفة بالتأكيد من قبل الفنان، بما في ذلك السلسلة المثيرة والكاملة من "ميزون فيرت" لأوتامارو التي يصوّر فيها بيئة بيوت الدعارة، معروضة في غرفة واحدة.

وتولوز- لوترك، الذي يعتبره النقاد واحداً من آخر فناني الانطباعية، وما بعد الانطباعية أيضاً، يبقى مثالاً حياً لفناني أواخر القرن التاسع عشر، أو بالأحرى الفنان الملعون الذي عاش حياته الخاصة وفنّه الخاص على مستوى من المشاركة العاطفية المكثّفة مع الواقع المحيط به.

مثل فينسنت فان غوخ وبول غوغان، فضّل هنري دو تولوز- لوترك على طريقته الخاصة، الهرب من المجتمع العائلي. وفي حين كان دافع فان غوخ وغوغان البحث عن عالم الريفيين، أو العوالم الغريبة في جزر المحيط الهادئ، كان تولوز- لوترك هارباً إلى عوالم بيوت الدعارة الملتبسة وأماكن الترفيه، حيث كان يلتقي المشرّدين والسكارى والمهمّشين، ليتقاسم معهم فنّه وأحاسيسه، بل حياته بأكملها.

المساهمون