"عواصم" طهران العربية تتركها وحيدة

09 فبراير 2020
+ الخط -
يبدو أن "محور الممانعة" لم يستفق بعد من صدمة اغتيال الجنرال الإيراني، قاسم سليماني، في بداية الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، بدليل أن ردود الفعل على "صفقة القرن" التي أعلنها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قبل نحو عشرة أيام، جاءت مضبوطة السقف وحذرة، سواء من إيران نفسها أو من تشكيلاتها وأذرعها الممتدة في المنطقة، وتحديداً حزب الله في لبنان الذي عادة ما توكل إليه، أو يوكّل نفسه القيام بمهمة الرد على مؤامرات "الشيطان الأكبر"، عندما أعلن أمين عام الحزب، حسن نصرالله، عزمه على طرد القوات الأميركية من المنطقة، أو الثأر من العدو الصهيوني، على إثر اغتيال قائده العسكري عماد مغنية (2008)، وكوادر أخرى. ولكنه حتى الآن لم يفعل. الإرباك يبدو سيد الموقف! لم تتوعد طهران كالعادة، ولم تزايد برفع راية القدس، ولم تستنفر حتى قاموس مفرداتها الصاخبة والمهدّدة بعظائم الأمور. وبقيت محافظةً على رباطة جأشها، على الرغم من العقوبات الإضافية التي أعلنها ترامب بعد اغتياله سليماني. هل إنها تأمل ربما ببصيص أمل يعيد إطلاق المفاوضات مع واشنطن، أم أنها كانت تراهن على عملية عزل الكونغرس ترامب، لعل وعسى. 
هل بدأت أرض العواصم العربية الأربع التي أكد أكثر من مسؤول إيراني سيطرة طهران عليها تميد من تحت أقدام الملالي؟ واضح أن حالة ضبط النفس والترقب التي تلتزمها طهران بدأت تنعكس على ساحات وكلائها، بدءاً من العراق الذي يعيش حالاً من الفوضى، واستفحال إعادة 
تشكيل حكومة بعد مضي أكثر من شهرين على استقالة عادل عبد المهدي، بفعل ضغط الشارع الذي تمثله الانتفاضة الشعبية المستمرة منذ أكثر من أربعة أشهر، وبنتيجة مفاعيل اغتيال سليماني على الأرض العراقية، ثم رد إيران بقصفها قواعد أميركية في العراق، ما أدّى إلى حدوث ردة فعل "عراقية" تجلت باحتجاج رسمي لدى طهران، وتقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي، ما أدّى إلى ضعضعة في صفوف القوى والفصائل السياسية الشيعية والمليشيات المسلحة التي تلتزم سياسة "الولي الفقيه" وتعليماته. كما أن انقلاب مقتدى الصدر وتحوله أداة لقمع الانتفاضة لم يثن عزم شبابها الذين دفعوا إلى غاية اليوم أكثر من خمسمائة شهيد.
عندها حاولت إيران استيعاب الوضع، وعينها دوماً على واشنطن، بدفع سفيرها في بغداد إلى إعلان أن سليماني كان داعية سلام، وكان يحمل "رسالة نشر الأمان والمحبة وتحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة". وكان لافتاً كذلك تشديده على رغبة بلاده "بتسوية الخلافات مع الإمارات والسعودية بأسرع وقت ممكن". غير أن هذا المنحى الاستيعابي، عبر إظهار حسن نية تجاه دول الخليج، ومحاولة تحييدها في المواجهة مع الولايات المتحدة، وبهدف استعادة زمام الأمور في الساحة العراقية لم يلق صدى إيجابياً، بدليل أن الشارع رفض ترشيح محمد توفيق علاوي لرئاسة الحكومة خلفاً لعبد المهدي، على الرغم من مسارعة طهران، ومعظم الكتل النيابية التي تدور في فلكها الى تبنّي ترشيحه. الأكيد أن زمن تسمية رئيس الحكومة الذي كان يشبه التعيين من طهران قد ولى. شغل نوري المالكي رجل طهران القوي رئاسة الحكومة مرتين (2006 - 2014)، وفي المرة الثانية فُرض فرضاً، على الرغم من أن تكتل إياد علاوي حصل يومها على أكثرية المقاعد النيابية. واليوم يتحفظ المالكي على ترشيح محمد علاوي الذي كان وزيراً للاتصالات في حكومته، واستقال منها على خلاف معه، ولكن مظلة طهران تظلل جميع الطامحين تحت سقفها، غير أن هذا الأمر لا ينطبق على الثورة في الشارع التي تنتفض ضد الطبقة السياسية الفاسدة، وإنما في الأساس ضد الوصاية الايرانية التي ترعى هذه الطبقة وتحميها وتسلحها.
وهذا ما يحصل، إلى حد كبير، في لبنان، حيث القرار بات في يد حزب الله، الذي يرعى الأدوار ويوزعها، ويترك للحلفاء والأتباع تقاسم الحصص. بيد أن اللعبة باتت معقدة بالنسبة لفصيل إيران الأهم والأقوى في لبنان والمنطقة، فهو من جهة ذراعها المسلح والمكلف القيام بدور الشرطي في
 معظم الساحات الأربع، من لبنان إلى سورية إلى العراق وإلى اليمن، ولكن معظم هذه الأدوار بدأت تدخل في أفول أو أقله تتأزم مع تأزم الدور والنفوذ الإيرانيين. ففي سورية، تمسك روسيا بشكل محكم بالسلطة في دمشق، وبشار الأسد بات مجرد دمية في يدي الرئيس الروسي بوتين، وتمسك كذلك بمعظم الأرض التي تقوم بتسليمها تدريجياً للجيش السوري الذي دجنته، وضمنت ولاءه. وفي الشمال، تدور المواجهة بين موسكو وأنقرة في ما يشبه توزيع أدوار بما يضمن للرئيس التركي، أردوغان، موقع نفوذ وقرار على الشريط الحدودي، ويتيح له بعضاً من القدرة على المناورة لمساومة واشنطن. أما طهران فأصبح دورها هامشياً، وبحكم الشريك المضارب للأسد طبعاً، وليس لبوتين. ولم تعد لحزب الله أي مهمة عسكرية ذات شأن يذكر، بدليل أنه قد سحب معظم عناصره من سورية. وهذا أيضاً من نتائج التفاهم الأميركي - الروسي عن ضرورة تحجيم إيران وإخراجها من سورية، وبفعل غض نظر بوتين (والأسد) عن الغارات الجوية الإسرائيلية التي تستهدف مواقع عسكرية للنظام السوري ولمليشيات إيران، وبالتحديد حزب الله. أما في العراق، فإن دور حزب الله في تقديم الخبرات والإعداد والتدريب لم يعد من حاجة له، إذ أصبح هناك حزب الله العراقي وعصائب أهل الحق وكتائب الإمام علي ولواء أبو فضل العباس، وغيرها من الفصائل والفرق الشيعية المنضوية تحت لواء الحشد الشعبي، الرديف للجيش النظامي. أما محاولة طهران تكليف حسن نصرالله القيام بدور الوسيط بين مليشيات عراقية، بعد اغتيال سليماني، فقد باءت بالفشل.
وبقي أمام حزب الله لبنان الساحة، أو العاصمة الأهم التي منها انطلق، ومنها انتشر، وفيها يحتمي، بحكم تركيبة لبنان المتنوعة والمتعدّدة والمعقدة في آن، ونظام حكمه الديموقراطي الليبرالي، وبحكم موقعه ودوره جسراً بين الشرق والغرب. وفي خضم ما يجري في المنطقة، وجد حزب الله نفسه، من جهة، محاصراً بالعقوبات الأميركية على إيران وعليه مباشرة، وبالأزمة المالية التي راحت تشتد مع الوقت. ومن جهة أخرى، الانتفاضة الشعبية التي اندلعت قبل أكثر من مائة يوم، واعتبر أنها موجهة ضدّه، علماً أنها لم تطرح حتى الساعة مسألة سلاحه غير 
الشرعي. ولكن حزب الله يعرف جيداً أنه أصبح جزءاً أساسياً من تركيبة السلطة، فانبرى يدافع عن الحكم، وعن رئيس الجمهورية الذي عطل البلد، من أجل فرضه سنتين ونصف السنة. وحاول أيضاً أن ينهي ساحة الانتفاضة الرئيسية بالقوة، كما فعل شبيهه مقتدى الصدر في بغداد، من دون جدوى. استوعب نصرالله جيداً ما يجري، عندما تطاول الانتفاضة مدناً شيعية كبرى وأساسية في الجنوب، مثل صور والنبطية، وفي البقاع مدينة بعلبك، وهي معاقل لحزب الله وحركة أمل. كما استوعب أنه أصبح في مركب واحد مع شركائه في السلطة، وبات عليه أن يدافع عنهم، ويحتمي بهم كما يحتمون هم به. ولكن التلطي بشعار المقاومة لم يعد ينطلي على معظم اللبنانيين، كما أن التضامن مع قوى السلطة لم يحمه من تهم التورّط في فضائح الفساد. لذلك، هو اليوم في حيرة من أمره، إذ بات لبنان تحت ضغط عربي ودولي شديديْن، سيعرّضانه لخطر العزلة والانهيار الاقتصادي والمالي، إذا لم يتم تغيير طاقم السلطة وإقرار إصلاحات جذرية في بنية الحكم وعمل المؤسسات.
وهذا يعني انكفاء كل أركان السلطة، بما فيهم حزب الله، بما سيعرّضهم للمساءلة والملاحقة، فما كان من الحزب إلا أن مارس عملية هروب إلى الأمام، مصرّاً على تشكيل "حكومة دمى" بوزراء غير حزبيين، وإنما غير سياسيين وغير مستقلين، وولاؤهم لأحزاب السلطة التي تحرّكهم. من هنا مأزق حزب الله في أنه يريد أن تحظى حكومة حسان دياب بالثقة، وتنطلق لكي يحتمي بها في الداخل، من دون أن يتحمّل مسؤولية أي انهيار اقتصادي. ولا يريد، في الوقت نفسه، أن يعتبرها الخارج حكومة حزب الله، كما بات يعتقد الخليجيون والأميركيون وبعض الأوروبيين. وهكذا تكون إيران الملالي قد فقدت طوق مواقعها وأذرعها المتقدمة والدفاعية في آن، وباتت مضطرّة لأن تقف في خط المواجهة المباشرة.
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.