حاجز بلوري فوق طاولة بمقعدين، يقف كلاهما فوق تفريعة من الخشبة تخترق الصفوف الأولى من مقاعد المتفرّجين، وفي الخلفية جدار يقطعه في الوسط ممر ضيق ومظلم، لا يبتعد عن حافة الخشبة سوى مترين. ذلك هو فضاء "عنف" الذي سيستضيف "وحوش" المجتمع التونسي، ويعرضها ضمن توليفة عالية السرعة والنسق.
في منتصف العرض، يقف الممثل حمدة نعمان موجّهاً الكلام لأربعة تلاميذ قتلوا أستاذتهم، قائلاً: "ألم تسمعوا عبارة ألبير كامو "الإنسان يمتنع"، ستقضون 20 سنة على الأقل من السجن لفهمها". عبارة تحيلنا إلى مقدمة المسرحية، التي تقول فيها كاتبة النص جليلة بكار "عندما تنكسر المرآة.. وتترك شظايا من صور.. عندها يولد الإنسان الجديد.. الإنسان الوحش".
وفي هذه المساحة التي يرسمها عدم الامتناع، أو عدم القدرة على ذلك، تتحرّك مسرحية "عنف" بشخصيات وحكايات تونسية بعضها خيالي والبعض الآخر يشير إلى جرائم التقطت من وسائل الإعلام.
ليس أمراً جديداً الحديث عن الإنسان الوحش في الفن والفكر، لقد نطق بذلك من قبل توماس هوبز بلغة فلسفية وإميل زولا بلغة روائية، وليس هيّناً قول ذلك في كل مرة بصدق وروح مواجهة. في وضعية الفنان، وفي حالة مسرحية "عنف" تحديداً، يتعرّض كل شيء للعنف، الممثلون أولاً، وحتى المتفرج الذي تكاد تخترقه الخشبة أو يضرب الصراخ في أعماقه؟
هذا العرض الصادم، الذي لو صنّف سينمائياً لوُضع ضمن فئة "أفلام الرعب القصوى"، يكشف صورة لمجتمع مخيف، يتطوّر فيه العنف بنسق جنوني فلا يغدو "مجرّد أداة للقوة" كما رأته حنة أرندت بل هو غاية الشخصيات والمؤسسات المستدعاة في عمل الجعايبي، وهو تعبير عن هشاشتها وانفلاتها في آن.
إنه عنف يمارسه ليس فقط مجرمون بتفاهة أو بمتعة بل أيضاً ضحايا بتشفّ، أو يمارسه محققون بعشوائية أو أطباء بوعي أو عشّاق بتلذّذ وانتقامية أو مدرّسون في إطار أداء الواجب أو مراهقون ضمن ردود أفعال. فوق الخشبة، يتنقل العنف بمرح وخفّة، مقدّماً مشهديّته الفنية عارضاً نفسه بعكس ما يتجلّى يومياً كخبر في جريدة أو تحليل في نقاش تلفزيوني.
من أربع حكايات عن جرائم الحياة اليومية، يقودنا العمل إلى فضاءات مختلفة في المجتمع التونسي، حيث يرصد كيفيات صناعة هذا الأخير للجريمة. قصة أولى عن معركة بين امرأة وسائق تاكسي تنتهي بمقتل الأخير، وثانية تحدثنا عن علاقة حب بين رجلين تنتهي بجريمة سياسية، وثالثة عن إحراق امرأة لابنها، ورابعة عن تمثيل أربعة تلاميذ بجثة أستاذتهم.
تقدّم المسرحية هذه الحكايات كباقة، يرسم من خلالها الثنائي الجعايبي وبكّار صورة مجتمع تتركز أنظاره اليوم صوب الجريمة الإرهابية، تلك التي لا تظهر إلا في آخر العرض، وكأنها لحظة تكثيف لكل تلك الجرائم المنتقاة من الحياة اليومية. إنها مثل نتيجة (منطقية أو غير منطقية) أو كوكتيل لكل ما يدور على الأرض.
حين يُذكر الإرهاب في آخر المسرحية، تبدأ الذاكرة في العودة إلى السيناريو بكامله؛ تكاد تقول "إننا بصدد نسيان العنف العادي"، ذلك العنف الذي يدور في كل الفضاءات من الأسرة إلى المدرسة إلى الشارع، وفي المخفر والسجن والعيادة. "عنف" بهذا المعنى قدّمت خريطة للـ"توحّش" الذي "لا يمتنع" عنه الإنسان التونسي، صادمة المتفرج بتوسّع خريطته الضاربة في العمق النفسي وفي ما يظل تسمّيه الأغلبية "قيماً".
العمل ليس فقط تركيباً لمجموعة جرائم متناثرة، فهو يقدّم عملية توليفية من عناصر موجودة في ذاكرة كل ممثل حاضر على الركح، وهم من أربعة أجيال مختلفة، علماً أن معظم المشاهد تدور بأسماء هؤلاء الحقيقية.
حين تلتقي جليلة بكار وفاطمة بن سعيدان، على الحاجز البلوري، تلعب الأولى دور سجينة بلغت درجة من اليأس حتى أنها باتت ترفض الحديث. هنا، تحدّثها بن سعيدان عن تجارب حياتية وفنية مشتركة؛ تذكر بصوت دافئ أعمالاً سابقة لهما "فاميليا" و"عشاق المقهى المهجور"، ليحيط الحديث بمشوار كامل وتقييم لمشروع مسرحي ومجتمع يبدو أصمّ تجاهه، فتنطبق للحظةٍ خيبة أمل الفنانة فوق يأس دورها كسجينة. وفي مشهد آخر، ترفض بن سعيدان التعرف إلى محدثتها (لبنى مليكة) فتقول الأخيرة "أنا لبنى متاع خمسون".
يقابل هذه الذاكرة الداخلية للفنانين التي تخترق العمل، ظهور أول لأربعة ممثلين هم خرّيجو أول دفعة من مشروع "مدرسة الممثل" الذي أطلقه الجعايبي السنة الماضية، هم نسرين المولهي وأحمد طه الحمروني ومعين المومني وأيمن الماجري.
يقول الماجري في حديث إلى "العربي الجديد" إن "عنف" لم تمثل قطيعة بين التدريب الذي تلقّوه طوال سنة، والمرور إلى العرض. يحدّثنا عن تشكّل العمل إذ يشير إلى أنه منذ أن طُرحت فكرته في حزيران/ جوان 2015، بدأ الاشتغال على مجموعة ارتجالات ومنها ظهر نص أوّلي جرى الاشتغال عليه أكثر في عملية تطوير مستمرة سواء من الكاتبة أو من المؤدّين بالانغماس في المراجع وفي الحكايات وفي تطوير النظرة إلى المجتمع، ضمن إيقاع عام للمسرحية.
الكثير من مشاهد العنف (الجسدي) تحضر على الركح؛ عنف يتعرّض له الممثلون، كأن تلقي بكار بالماجري من الخشبة. يشير الأخير إلى أن وراء مرور هذا الشعور إلى المتفرّج لعب سينوغرافي بالأساس واشتغال على الجسد، إذ يذكر أن المجموعة حين رأت السينوغرافيا لأول مرة أحسّت بما يشبه الصدمة، فالمساحة التي يتحرّك ضمنها المؤدون ضيقة. يقول "السينوغرافيا كانت عنيفة من البداية، نقف في حالة من الاختناق، حتى الكواليس تكون مظلمة".
لعل أي متفرج/ مواطن يمكن أن يوضع تحت سقف هذه السينوغرافيا، إنها في النهاية انعكاس لمجتمعه الذي يتجذّر فيه العنف، مرة بقصدية وأخرى بعفوية. وفي لحظات من العرض، تلتمتع تلك الإشارات السياقية فلا ننسى مناخ ما بعد الثورة في تونس وتوقف الإنسان على إنجازها بسبب العنف، ذلك الذي يرتسم كمجموعة استقالات فردية من عملية الامتناع، ولكنه يحمل قابلية التحوّل إلى استقالة جماعية.