لا تزال الدراسات التاريخية الحديثة حول تأسيس الإسكندرية وتطوّر مجتمعها العلمي في العصرين البلطمي والروماني، محط اهتمام واسع لدى الباحثين سواء في قراءة كيفية التلاقي بين الحضارتين المصرية واليونانية، ومقاربة مجمل التغيّرات التي أثّرت في المدينة والحياة الاقتصادية والاجتماعية فيها.
تنظم "مكتبة الإسكندرية" اليوم الأربعاء محاضرة لأستاذ الحضارة اليونانية والرومانية محمد عبد الغني بعنوان "علماء الإسكندرية القديمة بين التخصص والموسوعية"، يتناول فيها الحياة العلمية ومدارسها وتياراتها خلال ما يقارب تسعة قرون.
تعود المحاضرة إلى تاريخ إنشاء "الموسيون" (التي تعني باللغة الإغريقية دار أو معبد العلوم والفنون) في القرن الثالث قبل الميلاد إلى جانب "مكتبة الإسكندرية"، وكان العلماء فيه يتفرّغون للبحث والتجريب في معارف مختلفة، يخصّص لهم أجر سنوي مجزٍ مع إعفائهم من الضرائب، ضمن تنافس مع المجامع العلمية في المنطقة الموجودة في رودس، وأثينا، وأنطاكيا.
لم تكن هيكلية "الموسيون" وإدارته مستقلّة بيد أعضائها من الدراسين، حيث كان يحظى الكهنة فيه بمناصب متقدّمة، كما لم تكن عضويته محصورة في رجال العلم، بل كانت تضمّ عسكريين وكبار الموظفين والرياضيين الذي يجري تعيينهم من قبل الملك.
في كتابه "جوانب من الحياة في مصر في العصرين البطلمي والروماني في ضوء الوثائق البردية"، يذهب عبد الغني إلى دراسة العلاقات بين سكّان الإسكندرية، وتشكيل الإدارة في الحاضرة المتوسطية وتطوّرها وآليات تعامل السلطة مع الشعب، والحياة الاقتصادية وبسط النفوذ على الأقاليم المصرية، وصولاً إلى دخول المسيحية، وتتصل هذه المباحث جميعها بتقنين المعرفة من خلال المدرسة وتكريس تراتبية علمية وإدارة تحكمها، والتي تعدّ نقطة مفصلية في تطوّر العلم في تلك الحقبة.
تشكّل "الموسيون" كمركز للبحث العلمي قبل أن يصبح جامعة تدرّس الطلبة، ما جعل تلقّي المعرفة يذهب نحو مزيد من التخصّص، حيث برزت نخبة من العلماء الذي كرّسوا حياتهم في مبحث واحد في الأغلب، ومنهم إقليدس (325-365 ق. م)، الذي أسّس مدرسة متعمّقة في الرياضيات، التي استحوذت على معظم مؤلفاته مثل "المعطيات" و"القسمة" و"الأوليات"، إلى جانب علوم أخرى وثيقة الصلة بتخصّصه مثل الهندسة والفلك.
وكذلك هيروفليوس (335-280 ق.م) باختصاصه الدقيق في الطب والتشريح، وأريستاركوس (310-230 ق.م) في الفلك والهندسة، وأرخميدس (287-212 ق. م)، وأبولونيوس (262-190 ق.م) في الرياضيات، وديونيسيوس (107-68 م) في اللغة والصوتيات، وجالينوس (129-199 م) في التشريح.