"ماتت أشجار الزيتون التي تعمّر هذه الأرض منذ آلاف السنين. يبست النباتات المنتشرة في الروابي والحقول، هاجرت العصافير التي تزقزق هناك وهناك (..) اختفى الإنسان المهيمن ومعه حيواناته الأليفة وآلاته الملوِّثة"؛ هكذا ترسم رواية الخيال العلمي "عصير الهواء" (منشورات الفينيق، رسومات توفيق عمران، 2017) لـ الهادي ثابت مستقبلَ تونس، في زمن ليس بعيداً (2030).
لم يبق لوقف المأساة - في ذلك الوقت - سوى جُهد العِلم لإنقاذ المكان والحياة. هذا ما تقوله الرواية بشكل مباشر، أما ما تمرّره ضمنياً فالقول بأن الخيال العلمي يتحمّل مسؤولية لفت الانتباه لوقف مواصلة السير بخطى حثيثة نحو هذا المصير. لكن في المشهد العربي، هل هناك من يقرأ الخيال العلمي ويسمع مقولاته وهو يحدّثنا عن غدنا القريب أو البعيد؟
يضعنا المؤلف في منطقة الجنوب الشرقي التونسي مع شخصية عالِم يحاول أن يعيد لهذه الأرض أمطارها وقدرتها على إنتاج الحياة، من خلال اختراع آلة لتوليد الماء من الهواء بعد أن امتنعت السماء من أثر التغيرات المناخية. يعيش العالِم معزولاً عن الناس، ورغم ذلك تعترضه عوائق كثيرة؛ ليس أقلّها امتناع الطبيعة واستعصاؤها، وكثيراً ما يحاول اللصوص السطو على منتجاته، وتبدو من حين لآخر رؤوس المفسدين متربصة بكل ما أنجز، ناهيك عن الإهمال واللامبالاة.
قد تبدو استشرافات الهادي ثابت مبالغاً فيها، غير أن متابع التاريخ الطبيعي للمنطقة يعلم أنها تعيش (وليس ستعيش) على وقع موت متواصل للحياة فيها بفعل إقامة المشاريع الصناعية بشكل عشوائي، وسوء استغلال المياه وفوضى التوسّع العمراني، وها هي مدينة قابس اليوم (في نفس المنطقة) قد اندثرت واحتها البحرية التي عُرفت بها لقرون وصارت مدينة ملوَّثة مرشّحة للذبول، فليس اعتباطاً أن تتحوّل لدى الناظر بعد عقد من الزمان إلى امتداد للصحراء.
ينفتح العمل على دائرة أوسع حين يرسم معادلات العالم الجديد؛ زمن أصبحت فيه أميركا "لا تصدّر القمح نظراً للتصحّر الذي أصاب أراضيها"، وباتت بلدان كثيرة تتطلّع للأمن الغذائي معتمدة على حسن توظيف التكنولوجيا، وهو سبيلها الوحيد كي تستمر شعوبها في العيش.
الراوية تستشرف أيضاً ما هو أبعد من زمن أحداثها، حيث يجعل المؤلف الشخصية الرئيسية تست شرف سنة 2100 وفيها سترتفع مياه البحر بحيث تغمر جزيرة جِرْبة التونسية وتبتلعها إلى الأبد. حين يذكر البطل هذه المعلومة لمحدّثته، التي تسأله: "كل الجزيرة سيلتهمها البحر؟ 514 كيلومتر مربع تنتزع من خريطة تونس؟". فيردّ عليها: "لكن حكّام العالم لا يهمّهم جزر الأرض كلها ما دامت الأرض توفّر لهم المال والنفوذ".
إنها إشارة إلى معظم نزاعات السياسة والحرب اليوم وسابقاً حول الحدود والمواقع والثروات الطبيعية، في حين ننسى أن كل الأراضي القابلة للحياة مهدّدة أصلاً وواقعة بين فكّي البحر والصحراء، ليكون الغالب والمغلوب في صراعات اليوم مهزومان في واقع الغد.
لا تزال رواية الخيال العلمي تُقرأ أساساً من شريحة ما يُعرف بالناشئة، وهذا العمل بالذات يتحدّث عن مستقبلها المباشر غير أن رسالة أكثر أهمية تبعثها الرواية إلى قارئ أكبر سناً لأن جزءاً كبيراً من ملامح الغد ليس سوى نتيجة قرارات اليوم.
رواية الخيال العلمي لا تزال خافتة الصوت في تونس، أو في البلاد العربية بشكل عام، محكوماً عليها أن تتحدّث إلى الصغار. لا يلتفت لها بجدّية أهل الأدب وأهل العلم وهي واقعة بين مجالاتهما، ما بالنا بأهل السياسة والاقتصاد. فإذا لم نتخيّل غد هذه الأرض فمن المؤكّد أننا سنصل إليه خاضعين لإكراهاته. في الغالب، لن نصل نحن، سيصل غيرنا وسيتخبّطون في واقع استلموه كتركة مثقلة بالديون والأنانية والشرور.