قبل الوصول إلى عرض الفيلم الطويل (77 دقيقة)، وسهرة النقاش الطويلة مع المخرج، عرضت فقرات احتفالية بمناسبة مرور عشر سنوات على سينما كرامة.
بدأت الفقرات بالفيلم التحريكي القصير "الورقة الأخيرة" (6 دقائق)، للمخرجة الأيرلندية أوليا جولبيف، ليفتتح المهرجان به فقرات دورته العاشرة. الفيلم قصة ورقة شجر صغيرة، تحلم بالطيران، رغم جميع قوانين الطبيعة، وحتى آخر لحظة تؤمن بحلمها.
وجاءت هذه الدقائق الست لتلتقي عن قصد مع خلاصة المهرجان، الذي احتفل بعقد من سينما كرامة، بما يمثله من حلم بالتحليق تحقق على يد طفلة، طيّرت الورقة، وطارت معها جموع الأوراق مرافقة طيور السماء.
وتقاسمت الحفل فقرات من الشعر لعمر الطراونة، شاركه غناءً مع الغيتار أديب هادي، بينما قدم الفنان يزن الروسان أغنية "فكرك إنك معني"، ليبدأ عقب ذلك العرض الرئيسي "عرب غربيون".
امتدت تجربة الفيلم إلى مناقشة طويلة، إلى لقاءات جانبية مع المخرج الذي حضر مع عائلته. ذلك أن للفيلم خاصية سريعة التأثير لدى مشاهده. فهو خلاصة 12 سنة، ترك عمر الشرقاوي فيها ما تيسر له من كاميرات، بمواجهة أبيه، قوي البنية، العصبي المزاج، والحنون، والجريح، المتأكد من هوية فردوسه الضائع.
ليست لوحة ثابتة للأب منير الشرقاوي، بل حياة صاخبة داخل وخارج أرواح لم تكن لتبصر المشهد من دون أن يكون هذا العربي الفلسطيني المقتلع من مدينة حيفا، رب العائلة التي ينشئها مع زوجته الدنماركية، فينجبان أبناء دنماركيين بالولادة.
ملاحقة أعمق أسرار العلاقة الممزقة، بكاميرات قلقة زادت جمالية الفيلم وحقيقيته. الأب ذو المزاج الغاضب ينهر ابنه عمر بأن يكف عن تصويره، ويهدده بأنه سيكسر الكاميرا، حتى أنه في فورة غضب قال له إنه لم يبق إلا أن "تلحقني بالكاميرا وأنا أتبول".
مشهد من الفيلم
لكن عمر يصرّ، ليس على ملاحقة هدف تصوير، بل مواجهة ذاته، فهو وارث صفات أبيه، ولديه من سوء الفهم المزمن معه ما يكفي لتوتير العلاقة، كما لديه من سوء الفهم مع مجتمعه، ليصطدم معه، منذ أن كان طفلاً وينادونه في المدرسة "باكستاني"، ومنذ أن قرر الدفاع عن روحه بقبضته التي تصدت لتنمّر التلاميذ، فيواجه بمدرسين أقوياء يأمرونه بأن يلتزم بتقاليد الدنمارك، "لا تقاليد البلاد التي أتيت منها".
الجمهور الذي ملأ مسرح المركز الثقافي الملكي، رأوا غير مرة، الأب منير، وهو يموت في مشاهد تمثيلية. الفيلم أيضاً يقتطع من أفلام روائية سابقة مشاهد للأب الذي قرر ابنه أن يؤدي دوراً فيها.
نجحت فكرة الابن المخرج في استقطاب أب إلى حيز التمثيل. وفي فيلمه الأخير هذا نجح بقوة في الجمع بين الوثائقي والدرامي. لماذا؟ لأن جميع أفلام عمر الشرقاوي يحكمها التمزق ذاته، سواء وقف خلف الكاميرا ليديرها بتدبير روائي، أو تركها في البيت تصور سوء التفاهم بين جيلين، وتحت أسئلة حادة لا يجري النقاش حولها إلا عقب طرد الأب عمر لأكثر من شهر، بعدما ضرب أخاه بقسوة، ورجا خلالها أن يعود، بيد أن الأب كان حاسماً في الرفض.
من حق الابن أن يعرف أباه، ذا الإطار الهوياتي الواضح. والمهاجرون لديهم أسئلة تتباين جروحها من السطح إلى العمق. في حالة منير الشرقاوي الأب، الذي هجّر من بيته في حيفا، والملتزم دينياً، فإنه الوحيد الذي يتقن اللغة العربية في بيت يحتفظ الأبناء بالقليل من العبارات اليومية، بينما يفقدها الأحفاد، الذين يحملون جميعهم أسماء عربية، مقبولة اللفظ في مجتمع غربي.
في هذا المناخ الذي تقتطف أشواكه وزهوره على مدى سنوات طويلة، يجد العربي المشاهد نفسه، ليس في ملمح يخصه كما يقع في أي عمل فني أو أدبي، بل يجد روحه المتشظية في عين الكاميرا، سواء أكان مهاجراً، أم مقيماً في وطن غير واثق من غده.
وعليه، تبدو فلسطين استعارة ملائمة. إنها كل ما يجعل المرء غريباً، وضحية، حين ينظر من شباك البيت أو حين يفقد بيته بالجملة.
كما يشبه منير وذريته كل من يشاهدون الفيلم، لجهة المحبة الثاوية تحت قشرة قاسية. نحن جميعاً قساة ونحب بعضنا. إننا نصرخ في وجوهنا، محملين بعضنا قسطاً من المسؤولية عما وقع علينا.
مات الأب مرات عديدة في الأفلام الروائية، لكنه سيموت أخيراً حقيقةً، وسيدفنه ابنه عمر، وسيقرأ عليه القرآن في مقبرة على أرض الدنمارك.
استطاع المخرج أخيراً أن يقيم حواراً مع رجل صعب. إلا أن الوقت بدأ ينفد قبل أن تسقط ورقة الخريف. ولقد استطاع الابن والأب بوصفهما دنماركيين الذهاب لمرة وحيدة إلى حيفا، ليزور منير مسقط رأسه، ولينظر من الشباك إلى الميناء الذي كان يطل عليه في طفولته.
تتواصل عروض كرامة في المركز الثقافي الملكي والجامعات الأردنية من الشمال إلى الجنوب إيماناً من المهرجان بأحقية هذه المدن في نيل حصتها من السينما، وبالتزامن مع حفل الافتتاح في العاصمة عمان انطلقت الفعاليات في عشر مدن أردنية.