وكان الحدث اليمني، أمس السبت، الأهم على مستوى العالم، مع ما ظهر أنه حسم عسكري قام به رجال صالح الذي تحوّل من "رئيس مخلوع" إلى "رئيس سابق" في الإعلام السعودي ــ الإماراتي الذي احتفل بتطورات صنعاء بشكل استثنائي، غذّى الفرضيات التي تفيد باحتمال حصول صفقة بين هذا المحور وصالح الذي عرض وقفاً للحرب على اليمن مقابل تفاهمات وحوارات. وإذا كانت الكفة قد مالت بوضوح لمصلحة مسلحي صالح في العاصمة، فلم تلح في الأفق أي معالم للخطوة المقبلة في ما يتعلّق بالمناطق الشمالية التي يسيطر عليها الحوثيون بشكل كامل، مع ترجيح تفضيل السعودية على ما يبدو إعادة العمل بسياساتها التقليدية القائمة على التحالف مع صالح وحزبه ودولته العميقة، بمنطق التابع لها، في مقابل تعاطيها مع جزء من اليمنيين، أي الحوثيين، لا قيادتهم فحسب، وكأنهم مواطنون إيرانيون مقيمون في اليمن، وهو ما ينذر باستمرار كارثة الحرب في محافظات ومناطق يمنية عديدة.
ولم تقتصر الأحداث على العاصمة صنعاء، فوفقاً لمصادر محلية تحدثت لـ"العربي الجديد"، امتد التوتر والاشتباكات بين الطرفين إلى محافظات أخرى كالمحويت، بعدما أعلن حزب صالح دعوة رسمية لأنصاره وللمواطنين في البلاد، بأن "يهبوا هبة رجل واحد"، ضد "الحوثيين".
في الساعات الأولى من فجر السبت، عاشت صنعاء أعنف الاشتباكات وحرب الشوارع بين مسلحي صالح والحوثيين، في المربع السياسي الأكثر حساسية من الناحية الأمنية والسياسية، ألا وهو منطقة حدة وشوارع متفرعة منها إلى "الحي السياسي"، حيث شنّ الحوثيون هجوماً على منازل قيادات في حزب صالح وأقارب له، أبرزهم قائد للقوات الموالية له حالياً، نجل شقيقه، طارق صالح. وكانت الأنباء تتحدث عن هجمات الحوثيين، وسعيهم للإجهاز على حليفهم صالح الذي باتوا ينظرون إليه بعين "الريبة". ومع ارتفاع أصوات أذان الفجر، كان الوضع قد بدأ بالتغيّر، وشرع أنصار صالح، بالحديث عن ملامح تحوّل في موازين القوى على الضد من رغبة الحوثيين، وعن توسّع الاشتباكات التي كانت تدور قرب "الحي السياسي"، إلى مناطق أخرى، ليتم الإعلان من قبلهم عن استعادة السيطرة على مواقع حيوية في صنعاء ومباني وزارات وسفارات والمطار ومعسكرات تتبع في الأساس لقوات الحرس الجمهوري الموالية لصالح، لكن الحوثيين كانوا قد تسلموا زمام الأمور فيها. من بين هذه المواقع، معسكر 48 في منطقة السواد، الذي يعد مقر قيادة "الحرس الجمهوري"، ومقر "الرئاسة اليمنية" في منطقة "السبعين"، وفي محيطه مقر "اللواء الثالث"، وغير ذلك من المعسكرات.
وفيما أكدت مصادر محلية لـ"العربي الجديد"، أن مسلحين قبليين وجنوداً موالين لصالح، شرعوا بقطع طرقات أمام الحوثيين في أطراف صنعاء، ظهرت مفاجأة تجسّدت بثلاثة بيانات متتالية، على موقع حزب المؤتمر؛ الأول كان الأكثر لفتاً للانتباه، فقد أعلن عن "تطهير" العديد من مديريات "طوق صنعاء"، مما وصفها بـ"مليشيا الحوثي"، بل وتعدى ذلك، إلى الحديث عن تطهير مدينة ذمار، مركز المحافظة التي تحمل الاسم نفسه جنوب صنعاء، ومديريات أخرى في نفس المحافظة، ليتضح في وقت لاحق من يوم أمس الطويل أن سيطرة صالح فُرضت على معظم مناطق صنعاء.
في البيان الثاني لحزب صالح، وجه الخطاب لمنتسبي الجيش والأمن وللعاملين بأجهزة الدولة، يطلب منهم، ألا ينفذوا أي توجيهات من قيادات الحوثيين، بل وأعلن "الأمان" لمن يقف من منتسبي الجماعة على الحياد. وفي البيان الثالث، سرد مقدمات التصعيد، ودعا اليمنيين إلى أن يهبوا هبة رجل واحد ضد تصعيد الجماعة وأن يضعوا حداً لتصرفات ما وصفها بـ"العناصر المأزومة".
وكانت حالة الغضب العارم من الحوثيين ضد صالح شديدة الوضوح في إعلانات وبيانات الجماعة طيلة يوم أمس، وهو ما ترجم بخطابين اثنين لزعيم الجماعة عبد الملك الحوثي في غضون ساعات قليلة. ووصل الأمر بالحوثيين حدّ إباحة قتل صالح، بما أنه "جرّ على نفسه خطيئةً هي أخطر ما بدر منه على مرّ تاريخه المعروف"، مع تحميله "عواقب ما سوّلت له أبوظبي والرياض"، بحسب بيان مطوّل صادر عن المكتب السياسي للجماعة. ووصف البيان "انقلاب صالح" بالموقف "غير الغريب ولا المفاجئ"، لأن الأخير "لم يؤمن يومًا بالشراكة مع الجماعة ومواقفه السابقة كانت عبارة عن ظاهرة صوتية، وشراكته الفعلية كانت مع تحالف العدوان". كما هاجم البيان دول التحالف العربي، التي رحبت بتحركات صالح، وقال إن "عواصم العدوان ستدفع ثمناً باهظاً جراء هذه الحماقة، ولن يكون ما بعدها كما قبلها".
ومختلف التطورات والخطوات التي اتخذها حزب صالح السبت، كانت مؤشراً إلى عاملين: الأول أن افتراق الطرفين اللذين دخلا في "تحالف ضرورة" لمصالح مؤقتة، كان من الطبيعي أن ينتهي الأمر بينهما إلى صراع، بعد تعاظم الخلافات في الأشهر الأخيرة. أما المؤشر الآخر، فقد بدت الخطوات التي اتخذها حزب صالح، غير بعيدةٍ مما يجري تسريبه منذ شهور، عن تفاهمات بدأها مع التحالف بقيادة السعودية والإمارات، الأمر الذي كان أحد عوامل إنضاج الخلافات وإيجاد حالة من عدم الثقة بين الحزب وبين حلفائه الحوثيين.
وبالإضافة إلى المؤشرات والتسريبات والغزل الذي كان قد أظهره ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، تجاه صالح، في الشهور الأخيرة، بدا واضحاً من خلال أحداث السبت التي انهار فيها تحالف الحوثي - صالح، أن الأخير وعلى الرغم من أن تصعيد الحوثيين ضده كان شرارة الانفجار بصنعاء، إلاّ أن من المستبعد أن يدخل في معركة مع حليفه من دون أن يكون قد حصل على ضوء أخضر من عدوه خلال أكثر من عامين ماضيين، وهو التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات. ورحب التحالف بما وصفه بـ"الانتفاضة" المدعومة من حزب المؤتمر، ليعزز احتمالات التنسيق المسبق بين الرياض وصالح. وسبق البيانَ، خطاب للرئيس المخلوع، حمل العديد من الرسائل الداخلية والمحلية، بما فيها عرض "فتح صفحة جديدة" مع الجيران الأشقاء، إذا ما أوقفوا "العدوان" ورفعوا الحصار، وقال "نتحاور مع دول الجوار فور وقف العدوان وفتح المعابر والمطارات كسلطة شرعية من خلال البرلمان اليمني". وفي الخطاب أعلن موت التحالف رسمياً مع الحوثيين، محملاً الجماعة مسؤولية "العدوان" (حرب التحالف العربي) واصفاً إياها بالمليشيات التي تسببت بـ"سنوات ثلاث عجاف على اليمنيين" على كل المستويات، وواضعاً إياها في خانة المليشيات مع "الدواعش ومليشيات هادي" في إشارة إلى المسلحين التابعين للشرعية وللرئيس عبد ربه منصور هادي.
وعلى العكس من لغة الصرامة والتحدي، التي طغت على تعامل وتصريحات الجماعة الأيام الماضية، ظهر الحوثي، السبت، بخطاب أول مخصص للتعليق حول التطورات في صنعاء، لكنه للمرة الأولى تقريباً يخاطب صالح بلغة إيجابية يناشده "التعقل"، وقال حرفياً "أناشد رئيس حزب المؤتمر الزعيم علي عبدالله صالح بأن يكون أعقل وأن يكون أنضج وأرشد من تلك المليشيات العابثة المتهورة، وأن يتفاعل إيجابيا مع كل الجهود الرامية إلى وقف هذا التهور وهذه الفتنة". الأمر الذي اعتبر مؤشراً على أن الجماعة لا ترى التطورات تسير في صالحها، لكنه في الوقت ذاته، لا يقلل، من تمسكها بموقفها وبلغة "مواجهة التحركات".
وأياً يكن، فإن صنعاء أمام مشهد مختلف، ومرحلة جديدة، ربما تكتب ملامح مصير الحرب المدمرة في البلاد، منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، فحليف الحوثيين، القوي، تخلى عنهم، ومهما تكن حجم القوة التي لا تزال تملكها الجماعة، إلا أنها وفي أضعف الأحوال، أضافت إليها خصماً داخلياً مثلما فقدته حليفاً، في حين أنها تصارع على أكثر من جبهة، وأكثر من طرف محلي، وتنظر إليها السعودية، المؤثر الإقليمي الأول في اليمن بأنها "ذراع إيران"، على حدودها الجنوبية.
وتحالف الحوثي وصالح هو الذي جعل من الأول على نحو خاص، قوة تسيطر في العاصمة صنعاء، بعد أن كان وجود الجماعة المسلح (على الأقل)، محصوراً في محافظة صعدة، أقصى شمال البلاد لسنوات طويلة. والسؤال الكبير الذي يبرز مع هذه التطورات: هل تستطيع الجماعة وبما باتت تملكه من قوة ومكاسب من سيطرتها وتوسعها وخبرة في حروبها، هزيمة صالح عسكرياً إلى جانب خصومها المؤيدين الشرعية؟ أو هل يمكّنها ذلك، من امتصاص الصدمة للحد من الآثار عليها، واتخاذ قرار سياسي تقبل به بالعودة خطوة إلى الوراء، وما هو الحد الأدنى، التي ترضى أو يقبل به خصومها، وعلى الأرجح أن سيطرتها باتت مهددة في أغلب المحافظات التي توسعت إليها في السنوات الأخيرة، بما فيها صنعاء.
وعلى صعيد السعودية - صالح، وما أظهرته الأولى من علامات مباركة واحتضان كامل لتحركات الأخير، فهل يجعل ذلك منها حليفاً جديداً بعد أن كان خصماً لدوداً خلال الحرب؟ ووفقاً للعديد من التصريحات، فإن الراجح في أي علاقة جديدة بين الرياض وصالح، أن تشترط تنحيه شخصياً عن رئاسة الحزب، مقابل السماح بدور لحزبه وبعض أقاربه، وربما لابنه أحمد، السفير السابق لدى أبوظبي، الأمر الذي تعززه تصريحات صالح في خطابه الأخير، السبت، عندما تطرق في حديثه، إلى أنه لن يلعب دوراً في المرحلة المقبلة. وكان لافتاً كيف اختفى فجأة لقب "المخلوع"، الذي كان يوصف به علي عبد الله صالح، في الإعلام السعودي على مدار السنوات الثلاث الماضية، ليتم استبداله بلقب "الرئيس السابق" ولتوصف معارك مسلحيه ضد الحوثيين بالانتفاضة الشعبية لعروبة اليمن ضد الحوثيين الإيرانيين، بحسب كلام السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر، والأدبيات التي زخرت بها تغطية القنوات السعودية والإماراتية، وخصوصاً قناتي "العربية" و"الإخبارية" السعوديتين، إضافة إلى المواقع الإلكترونية وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي، التابعة لهما، خلال الساعات الماضية.
كما أفرد الإعلام السعودي مساحات كبيرة لكلمة صالح، التي بثتها قناة "اليمن اليوم" التابعة له، والتي دعا فيها القوات الموالية له والشعب اليمني، إلى الانتفاض ضد الحوثيين، في جميع محافظات البلاد، ودعوته إلى فتح "صفحة جديدة" مع دول الجوار. والدعم الإعلامي السعودي لتحركات صالح، ترافق مع دعم رسمي من التحالف العربي، فقد دعا الأخير "شرفاء" اليمن إلى الالتفاف حول الانتفاضة ضد الجماعة. وأعرب التحالف، في بيان، عن ثقته "بأن استعادة أبناء حزب المؤتمر الشعبي (يقوده صالح) زمام المبادرة، وانحيازهم لشعبهم اليمني وانتفاضته المباركة، ستخلص اليمن من شرور المليشيات الإيرانية الطائفية الإرهابية". وكعادته، تفرغ وزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات، أنور قرقاش لرمي شائعات تتولى وسائل الإعلام بدورها الترويج لها، من نوع أن "قطر حاولت إجراء مصالحة في اللحظات الأخيرة بين الحوثيين وصالح لإنقاذ الحوثيين".