في كتابي "حكايات الأغاني" (دار رياض الريس للكتب والنشر، 2013) ذكرت ما يلي: "ومن شعر هارون هاشم رشيد غنّت فيروز بلحن الأخوين رحباني قصيدة "غرباء"، وتعرف الأغنية أيضاً بعنوان "مع الغرباء"، وهي من الديوان الأول للشاعر الفلسطيني "مع الغرباء" الصادر عام 1954. أما أغنية "سنرجع يوماً إلى حيّنا" التي تغنّيها فيروز بلحن الأخوين رحباني، وتنسبها بعض المواقع الإلكترونية ــ بل وبعض الكتب! ــ إلى هارون هاشم رشيد، فهي ليست من تأليفه، بل من شعر الأخوين رحباني".
تذكّرت ذلك في الأيام الماضية، بعد انتشار نسب هذه القصيدة إلى هارون هاشم رشيد، في المقالات التي حررت لنعي الشاعر الفلسطيني إثر وفاته، وبينها ما نشرته "العربي الجديد" يوم أمس الثلاثاء. وكما يحدث في شبكة الإنترنت، إذا أخطأ أول من كتب مقالاً، يتكرر الخطأ في مقالات لاحقة، بسبب غياب التدقيق في المعلومة. والواقع أن الخطأ انتشر بعدما نُسبت القصيدة إلى هارون هاشم رشيد عام 2009، وكانت فيروز غنتها لأول مرة عام 1956.
وقبل أن أذكر في كتابي أن القصيدة من شعر الأخوين عاصي ومنصور رحباني، كنت قد لجأت إلى مصادر عدة للتأكد من الأمر: أولها الاتصال بمؤسسة "ساسيم" SACEM، وهي الجمعية التي تُعنى بحقوق مؤلفي وملحني ومنتجي الموسيقى والأغاني، ومقرها العاصمة الفرنسية باريس. سألتهم: "أغنية (سنرجع يوماً) مسجّلة باسم من؟ وبالتالي من يتسلم العائدات؟ وكان الجواب: "الأخوين رحباني". وكررت السؤال لوكيل "جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى" في لبنان، المحامي سمير ثابت، فقال "إن الأغنية مسجلة باسم الأخوين رحباني، وعائداتها لهما".
وكنتُ أحتفظ بذاكرتي بحديث مع منصور رحباني الذي أكّد لي أن القصيدة من شعرهما. ولأن الحديث كان شفهياً وليس مدوّنًا، لجأت إلى الصديق محمود زيباوي، وهو مرجع في الغناء العربي وتحديداً في إنتاج الأخوين رحباني ولديه أرشيف توثيقي غني. أرسل لي صورة من مجلة الإذاعة اللبنانية، الصادرة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1956، وفيها أن فيروز ستغني يوم الخامس من الشهر أغنيتين، إحداهما "سنرجع يوماً" وهي من تأليف وتلحين الأخوين رحباني.
كما وافاني بصورة لغلاف الأسطوانة المنتجة عام 1957، من شركة "صوت الشرق" (بارلوفون)، وهي تضم أغنيتين: في الوجه الأول أغنية "يوم سفر" لنصري شمس الدين، وفي الوجه الثاني "سنرجع يوماً". والنص على الغلاف الخلفي يتكلم على الهجرة، على السفر والحلم بالعودة إلى الوطن. وأكدّ لي محمود زيباوي أن القصيدة ذات موضوع لبناني. وما جعلني أثق في الرأي أن القصيدة لا تتضمن أي إشارة مباشرة إلى فلسطين، على خلاف القصائد الأخرى التي غنتها فيروز وفيها ما يعني بوضوح ومن دون التباس أن القصيدة عن فلسطين.
ولاحقاً ارتدت قصيدة "سنرجع يوماً" ثوباً فلسطينياً عندما أعيد تسجيلها مع مجموعة من الأغنيات ذات الموضوع الفلسطيني، في ألبوم حمل عنوان "القدس في البال"، وضمّ: "زهرة المدائن"، و"القدس العتيقة"، و"سيف فليشهر"، و"غاب نهار آخر"، و"يافا"، و"بيسان"، و"سنرجع يوماً". وذُكر أن هذه الأغاني من تأليف وتلحين الأخوين رحباني، ما عدا "سيف فليشهر" فهي من نظم سعيد عقل. وقصيدة "سنرجع يوماً" هي عن العودة من الغربة، والعودة إلى الوطن الأم، وهي قابلة لأن تكون موضوعا لبنانياً وفلسطينياً أيضاً.
إضافة إلى ما سبق، راجعت الوقائع. عام 1955 زارت فيروز والأخوين رحباني القاهرة، وأنتجوا لحساب "إذاعة صوت العرب" مجموعة من الأغاني، بعضها من كلمات شعراء آخرين مثل "سوف أحيا" وهي من نظم مرسي جميل عزيز، و"مع الغرباء" وهي من نظم هارون هاشم رشيد، وشارك في بعضها المطرب كارم محمود.
والشاعر هارون هاشم رشيد أصدر ديوانه الأول "مع الغرباء" عام 1954 ، قبل عامين من تسجيل فيروز الأغنية لأول مرة، وليست قصيدة "سنرجع يوماً" من القصائد المنشورة فيه. وغابت القصيدة عن الديوان الثاني "عودة الغرباء" (1956)، وعن الثالث "غزة في خط النار" (1957)، وعن الرابع "أرض الثورات" (1959)، وعن "ديوان هارون هاشم رشيد" الصادر عن "دار العودة" عام 1981، وهو يضم دواوين الشاعر الصادرة حتى ذلك التاريخ. كما ظلت القصيدة غائبة عن دواوين الشاعر كافة إلى عام 2009، ويبدو أنها نُشرت في ديوان عنوانه "الصوت والصدى". أنا لم أتمكن من الاطلاع عليه، لكن منذ ذلك التاريخ تكررت نسبة القصيدة إلى هارون هاشم رشيد.
وتوالت في ذهني الأسئلة: لماذا سكت الشاعر هارون هاشم رشيد عن نسبة القصيدة إلى الأخوين رحباني منذ 1956 حتى 2009، أي ما يزيد عن خمسين سنة؟ لماذا لم يضمّنها أحد دواوينه، خاصة وهي القصيدة التي ذاعت في العالم العربي بأسره وأحبها الناس كثيراً؟ وأن عائداتها المالية تُعطى لغيره؟ ليس من مبرر لنكرانها، خصوصاً وأن الأخوين رحباني أنجزا في الفترة نفسها لحن "مع الغرباء" مع نسبة القصيدة إلى صاحبها. كما لحّنا قصيدتين غنّتهما فيروز "داري" و"إبنة بلادي"، ونسباهما إلى مؤلفهما الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى).
ولم تقع عيناي على بيان توضيحي من هارون هاشم رشيد يذكر فيه أن قصيدته تُنسب خطأ إلى الأخوين رحباني. كما لم تقع عيناي على بيان مماثل من الأخوين رحباني ينفيان فيه أن يكون مؤلف القصيدة أحد سواهما. ربما لأن منصور توفي عام 2009 وقبله عاصي عام 1986؟ في اعتقادي الخاص أن هارون هاشم رشيد كان في الثانية والثمانين من عمره عام 2009، ولعله لم يكن في وضع يسمح له بالتدقيق الصارم.
الراحل هارون هاشم رشيد من رعيل كبار الشعراء الفلسطينيين، مع عبد الكريم الكرمي وإبراهيم طوقان. وهو الجيل الذي سبق، بحكم العمر، الشعراء الكبار اللاحقين ومنهم فدوى طوقان ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد ومعين بسيسو. وكان هارون هاشم رشيد غزير الإنتاج وشعره يحظى باحترام، والتزامه الصادق بقضية بلاده في السواد الأعظم من قصائده ومسرحياته جدير بالإعجاب. ولا ينتقص من قدره إطلاقاً حذف قصيدة "سنرجع يوماً" من قائمة إبداعاته، خصوصاً بعد الالتباسات المتعددة.
في الختام لا أزعم أنني أملك الخبر اليقين. لكنني أفتح باب المناقشة على مصراعيه. ومن لديه معلومة إضافية فلينشرها، لكي تكتمل أجزاء الحقيقة.