لم ينجح الاحتلال الإسرائيلي الذي هدم بيوت قرية عمواس وأخفى كلّ معالمها بعدما هجّر أهلها، في القضاء على ذاكرة ما زالت حيّة. فلسطينيو تلك القرية ما زالوا يأملون باسترداد أرضهم المسلوبة... وكذلك الوطن كلّه.
من داخل دُرْج في غرفة أشبه بمكتبة منزلية، أخرج أحمد حسن أبو غوش (66 عاماً)، الذي يسكن في مدينة البيرة الواقعة في وسط الضفة الغربية، علبة بلاستيكية صغيرة في داخلها صور على شكل شرائح فوتوغرافية، توثق ما بعد تهجيره وأهالي قريته عمواس غرب القدس في عام 1967. ما زال يحتفظ بها ضمن مهامّه رئيساً لجمعية عمواس الخيرية.
يروي أبو غوش لـ"العربي الجديد" وصول تلك الصور إلى أيادي أهالي عمواس. صار يقلّب نسخاً مطبوعة من الصور على شكل بطاقات تذكارية صادرة عن الجمعية. يقول: "هذه الصورة قبل هدم القرية. وفي هذه تظهر الآليات العسكرية تهدم بيوتنا. هنا الأهالي يخرجون من القرية. هذه المدرسة قبل الهدم. هذه صورة عامة للقرية ومنازلها عام 1958، وهذه صورة للقرية عام 1968 بعدما هدمت واختفت المنازل".
يوضح أبو غوش أنّ أهالي عمواس هجروا في اليوم التالي لما عرفت بالنكسة أو حرب عام 1967، وتحديداً السادس من يونيو/ حزيران عام 1967. وبعد أسبوعين، كان مستوطن إسرائيلي قد أضاع أغناماً له وأخذ يبحث عنها بين القرى. وحين وصل قرب عمواس، رأى عمليات التدمير للمنازل. ذلك المستوطن، بحسب أبو غوش، وثّق المشهد بالكاميرا الخاصة به، وباع جزءاً من الصور ونشرت في الصحافة الإسرائيلية، وتحول لاحقاً إلى مصور. حاول أهالي عمواس وتحديداً أحمد ذيب أبو غوش، الوصول إلى المصور الإسرائيلي في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، ليساوموه على شراء الصور. بالفعل اشتروها بألفي دولار، وكانت عبارة عن نحو 35 صورة.
توثّق الصور عملية هدم عمواس، وانتشار جيش الاحتلال الإسرائيلي بين البيوت وتجهيزه للمتفجرات، والبيوت قبل هدمها، حتى خروج الناس من عمواس وثقتها كاميرا ذلك المستوطن. طبع أهالي عمواس عدداً كبيراً من النسخ لتلك الصور على شكل بطاقات تذكارية لحفظ الجريمة في الأذهان، ونشروا الصور في مجلة أصدروها باللغة الإنكليزية، فيها اعترافات من قادة وجنود الاحتلال حول جريمة هدم عمواس وتهجير أهلها في عام 1967.
وكانت تلك الصور أحد أهم الأسباب التي جعلت قضية عمواس والجريمة التي حدثت فيها موثقة، إذ نادراً ما وثقت جرائم تدمير القرى عام 1948 بالصور، الأمر الذي جعل أهالي عمواس يهتمون بجمع كل وثيقة تخص قريتهم. عمواس التي هجر أهلها في عام 1967 شكلت مع قريتي بيت نوبا ويالو اللتين هجرتا أيضاً، ما تعرف بقرى اللطرون، الواقعة بين القدس ويافا والرملة. وكانت هذه القرى عصية على السقوط، ولها دور هامّ في فشل القوات الصهيونية في السيطرة عليها خلال حرب عام 1948، وخصوصاً في المعارك التي جرت للسيطرة على القدس، وتلك من القرى القليلة التي دمرت وهجرت بالكامل عام 1967.
وبحسب المنشورات التي توزعها جمعية عمواس والمتعلّقة بأهداف تدمير وتهجير قرى اللطرون، فإنها تشمل تعديل الحدود. تلك القرى بقيت على شكل شبه جزيرة داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وهدف الاحتلال من ذلك إلى الاستيلاء على الأراضي الخصبة التي تحدّ تلك القرى، والاستيلاء على المياه، وتعديل خط القدس - حيفا ليمر من وسط القرى المدمرة، بهدف تسهيل وتقريب المسافة، فضلاً عن الانتقام من أهالي هذه القرى لصمودها في عام 1948.
أقام الاحتلال مكان عمواس حديقة زرعها بالأشجار الحرجية، محاولاً طمس كل بقايا القرية. ولم يبق منها سوى مقبرتين، ومقامين إسلاميين، زارها أحمد أبو غوش آخر مرة قبل أربعة أعوام، وبعدها لم يستطع تكرار الزيارة بحجة المنع الأمني الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي. ويؤكد أبو غوش أن معالم عمواس مثل بقايا البناء والحجارة تختفي تدريجياً في الحديقة التي أقامها الاحتلال مكان عمواس. وحتى الأشجار الفلسطينية كالتين والعنب تختفي لصالح الأشجار الحرجية التي زرعها الصندوق القومي الإسرائيلي هناك.
يرد أهالي عمواس بما يملكون من وثائق وصور وشهادات حية على ما حاول الاحتلال ترويجه، من أنها كانت خربة صغيرة بلا سكان، فيذكر أبو غوش كيف هجروا وهو في عمر الرابعة عشرة في السادس من يونيو/ حزيران، حين بدأ جيش الاحتلال اقتحام عمواس من الغرب، وتجميع الناس وسط القرية وأمرهم بالسير نحو رام الله. أما عائلته وجيرانهم الذين يقطنون شرق القرية، فخرجوا قبل وصول الجيش خوفاً من جرائم الاحتلال، ليلتقوا بأهالي قريتي يالو وبيت نوبا وهم يهجرون منها.
"لا للتبديل، لا للتعويض كبديل عن العودة" يقول أبو غوش، ويكرر عبارة قالها والده: "دونم في عمواس ما بنبدله بدونم في الجنة"، وقد تحولت العبارة إلى ما يشبه النشيد: "عمواس بلدنا، وعنا ما نقبل بدايل، ألف ضعف في الجنة، أرض مزروعة بالحنة، وترويها الجداول".