ومع أن السلطة الفلسطينية باتت المسؤولة عن قطاع غزة، بعد تنفيذ اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، إلا أن تل أبيب لا تزال ترى في الأخيرة العنوان السلطوي الوحيد في القطاع الذي يتوجب أن يدفع الثمن جراء أية عملية إطلاق صواريخ.
وعلى الرغم من المحاذير التي تراعيها قيادتها قبل الانجرار لمواجهة مع إسرائيل، إلا أن "حماس" قد ترى في مواجهة عسكرية ضد إسرائيل على خلفية الهبة الجماهيرية الرافضة لقرار ترامب بشأن القدس فرصة مواتية لتحسين مكانتها في المواجهة ضد إسرائيل. فردة الفعل الجماهيرية على قرار ترامب توفر بيئة داخلية تحسن من مكانة "حماس" في المواجهة مع إسرائيل. وبخلاف ما كانت عليه الأمور في حرب 2014، فإن انفجار مواجهة مع غزة، في الوقت الذي تتواصل مظاهر الاحتجاج على قرار ترامب، قد يفضي إلى تعاظم المخاطر الأمنية أمام إسرائيل في الضفة والقدس والداخل الفلسطيني، بما قد يدفع المزيد من القطاعات الجماهيرية الفلسطينية للانضمام لهذه الاحتجاجات. علاوة على أنه قد يقود إلى عودة عمليات المقاومة، لا سيما ذات الطابع الفردي على نطاق واسع.
في الوقت نفسه، فإن البيئة الإقليمية والدولية على خلفية قرار ترامب ستكون أكثر حساسية لنتائج الجهد الحربي الإسرائيلي الذي سيستهدف بشكل أساس المدنيين. كما أن التوتر على الجبهة الشمالية وتكثيف تل أبيب من غاراتها التي تطاول أهدافاً لإيران وحزب الله، يمثل عائقاً أمام توجه إسرائيل لإشعال مواجهة شاملة مع حماس في قطاع غزة، خشية أن تجد تل أبيب نفسها في حرب على جبهتين في آن واحد. إلى جانب ذلك، فإن تل أبيب تعي أن مرحلة ما بعد الانفجار الشامل في قطاع غزة ستكون مختلفة تماماً عما قبلها، إذ إن هذه المواجهة ستقود حالة من الفوضى العارمة، تسمح ببروز قوى ومجموعات أقل انضباطاً يمكن أن تواصل استهداف إسرائيل، بدون أن تبدي حساسية لردات فعل تل أبيب.
من هنا، فإن إسرائيل، التي تراهن، حتى الآن، على ميل حماس لعدم تحطيم قواعد المواجهة، تعي خطورة انفجار مواجهة شاملة مع الحركة في ظل الظروف الحالية وإمكانية أن يسهم هذا التطور في تعقيد بيئتها الأمنية والإقليمية والدولية. وهذا ما دفع إسرائيل لممارسة الضغوط الاقتصادية على القطاع، من خلال إغلاق المعابر الحدودية معه، وهي المعابر التي يتم عبرها نقل البضائع الأساسية والحيوية للغزيين، بهدف محاولة إجبار الحركة على التعايش مع قواعد المواجهة التي تحاول تل أبيب إملاءها. إلى جانب ذلك، يمكن الافتراض أن تطلب تل أبيب من القاهرة التدخل لدى حماس لمحاولة احتواء الموقف. مع العلم أن مصر يمكن أن تتأثر بحالة الفوضى التي يمكن أن تسود القطاع في أعقاب أية مواجهة مع حماس بدرجة لا تقل عن إسرائيل. فحالة الفوضى المتوقع أن تسود قطاع غزة ستفاقم الأوضاع الأمنية في سيناء سوءاً. وانطلاقاً من هنا، فليس من المستبعد أن تتحرك القاهرة بالتنسيق مع تل أبيب لاحتواء الموقف من خلال تحسين البيئة الاقتصادية في القطاع بتخفيف مظاهر الحصار، وعبر الضغط أيضاً على السلطة الفلسطينية للإسراع بالوفاء بالتزامات السلطة في اتفاق المصالحة، لا سيما رفع العقوبات التي فرضها رئيس السلطة، محمود عباس، على القطاع ودفع رواتب موظفي الحكومة التي كانت تديرها حماس في القطاع، والذين يمارسون أعمالهم حتى الآن. لكن في المقابل لا يمكن تجاهل الاعتبارات الشخصية لرئيس الحكومة الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي قد يرى أن الاستثمار في التصعيد ضد "حماس" يمكن أن يحسن مكانته السياسية في ظل التحقيقات التي تجري ضده حالياً بتهم التورط في قضايا فساد خطيرة.