"حارس السينما الفلسطينية".. منادب فقط

21 مايو 2017
(بشار إبراهيم/ فيسبوك)
+ الخط -

شكّل رحيل الناقد السينمائي بشار إبراهيم، صدمة للوسط الثقافي العربي، وقد عُرف عن الراحل تأريخه للسينما العربية والفلسطينية على وجه الخصوص، إضافة إلى كتاباته في القصّة القصيرة والشعر، وقبل مضي 40 يومًا على وفاته أعلنت المخرجة الفلسطينية امتياز المغربي أنها تقوم بعمليات المونتاج على فيلمها الوثائقي "بشار إبراهيم حارس السينما الفلسطينية"، المستند إلى شهادات حيّة لنحو 14 شخصية عربية ممن عرفوا الفقيد، موزّعين على قارات العالم القديم، وحسب تصريح المغربي لجريدة البيان الإماراتية، فإن الفيلم يوثّق لمسيرة إبراهيم ويحاول قياس أثر غيابه على السينما الفلسطينية.

إن جوهر أي عمل وثائقي هو مضمونه؛ أي ما يقوله، أما الشكل الفنّي الذي يعتمده الوثائقي فأقرب إلى منهج عالمي يختلف بين مؤسّسة وأخرى لكنه لا يحيد عن تقليديته في غالب الأحوال؛ ليُرجعنا إلى لب الموضوع وهو "ما هي القصّة" أو الموضوع الذي يطرحه الشريط التسجيلي ليكون هو سبب التفاعل بين المادة المصوّرة والمتلقي وأساس الارتباط الشعوري بين ما يروى وبين الجمهور المستهدف.

يبدأ الفيلم بكونه إهداءً لروح إبراهيم التي غابت عن عالمنا في يوم الأرض، بالترافق مع مقطع لأغنية سناء موسى "هي يمّا ودعيني"، وخلال الدقائق الاثنتين والعشرين للفيلم، يطلّ أصدقاء الفقيد بكلامهم عن تجاربهم معه أو ما يمثّله بالنسبة لهم وللسينما الفلسطينية إضافة لبضع مقاطع من مقابلات مستقاة من أرشيف إذاعة مرح وقناة الجزيرة، تتخلّلها مقاطع من أفلام فلسطينية وعربية ومجموعة من الصور لإبراهيم في مختلف الاحتفاليات التي كان جزءًا مهمًا منها، وبعض صوره الخاصّة مع أصدقاء وزملاء مهنة وشخصيات اعتبارية مثل الشاعر محمود درويش والرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلة وغيرهما.

نفترض النيّة الحسنة هنا حين نقول إن المغربي أرادت صنع ذاكرة سينمائية للرجل ذي الفضل الكبير على السينما الفلسطينية، لكن هذه الرغبة لا تجد معاملات سينمائية تخدم هذا الغرض، فالسرد المتقطّع للفيلم يفشل في وضع سياق واضح أو أن يبني صورة للناقد أمام شخص لا يعرفه، فالأحاديث المبتورة للمشاركين في الفيلم تقتصر على كونها بوحًا لا يوثّق مسيرته ولا يقيس أثر غيابه على السينما الفلسطينية؛ الذي يمكن التنبؤ به حاليًا ومن المفترض أنه عصيّ على القياس بعد شهر واحد من رحيله.

كان إبراهيم حنونًا على أسرته شغوفًا بالسينما مسالمًا ومدافعًا عن أصدقائه، شاهد كل ما أنتجته السينما الفلسطينية وكتب عنها مؤلّفات عديدة، واهتم بالسينما العربية بالمجمل، ولم يمنعه مرضه الخبيث من مواصلة حبّه للحياة؛ هذا ما يقوله الفيلم على لسان مشاركيه دون ذكر مواقف بحد ذاتها ليبتعد بنا كمشاهدين من شيء محسوس إلى مجرّد، يتحدّث المشاركون في الفيلم إلى كاميراتهم الشخصية سواءً في بلجيكا أو ألمانيا أو سورية أو مصر، في غياب واضح لرؤية إخراجية في اختيار زاوية الكاميرا أو مراعاة الخلفية الظاهرة، أيضًا تظهر بعض الشخصيات على أقل من نصف الشاشة تاركة مساحة من التظليل على جانبيها.

وإن كان هذا الشيء قد يجد تبريرًا نظرًا لوجود المخرجة في رام الله، غير أن المغربي فقدت النباهة في استغلال نقطة التنوّع بين المنفى القديم بمشاركة وجوه فلسطينية في بلدان عربية والمنفى الجديد في أوروبا، والمحاصرين داخلًا في فلسطين وحتى سورية، واكتفت بتذييل اسم الدولة التي يقيم بها المشاركون وأصولهم، ولا يعني هذا الكلام أن الاعتماد على الاتصال الإلكتروني خاطئ لكنه لا يقدّم طرحًا دراميًا ولا مفاعيل إنسانية، كما فعل رشيد مشهراوي مثلًا في فيلم "رسائل من اليرموك"، ليتحوّل الفيلم إلى جمع لشهادات في حقّ الراحل لا جامع بينها تقريبًا ولا خط سير أحداث واضحاً ينقل بين مشارك وآخر.

يسير الفيلم دون تعليق صوتيّ كي يقود الحالة التوثيقية المفترضة لتعريف المشاهد ببشار إبراهيم فخلال الفيلم لا ذكر لدراسته الجامعية أو ممارسته رياضة الجودو في شبابه مثلًا، كما يهمل تاريخه النضالي قبل أن يترك البندقية، وهو الذي كان قائدًا عسكريًا في مخيّم النيرب مع أحد الفصائل الفلسطينية، وقاتل مع الليبيين في أوزو، إلى غيرها من التفاصيل في حياة الراحل.

يُكتفى بصورة للبطاقة الشخصية لإبراهيم لإظهار تاريخ ولادته ومكانها دون ذكر أصوله من قرية الخالصة في الجليل الأعلى في فلسطين، ليبزغ السؤال أليس من مهام الفيلم التسجيلي توثيق التحولّات في شخصياته والسعي نحو الاقتراب من واقعهم، وهذا ما لا يمكن تحقيقه في انتقاء الصور من صفحة الفيسبوك الشخصية، أو الحديث إلى ابنته المكلومة برحيل والدها وهي لا تزال متّشحة بالسواد.

ومن النافل ذكره هنا أن (ليلى) نُقلت إلى المشفى لتردّي حالتها الصحيّة بينما كان الفيلم يمرّ بمراحل مونتاجه، ألم يكن الأخيَر انتظار الصدمة لتعبر قبل التصدّي لإنجاز هذا الفيلم الذي طغى فيه الحزن على موضوعه، وغاب عنه التوثيق ليكون محض مونتاج بدائي يفتقر للجمالية أشبه بعروض الشرائح على مدى دقائقه، يظهر فيها المشاركون نادبين أو قائلين إن الراحل كان مرجعًا مهمًا.

مغالطات بالجملة
في بوستر الفيلم، وربّما لهدف تصميمي بحت؛ يُعرف عن بشار إبراهيم أنه ناقد عربي سوري وتترك الفلسطيني بسطر منفرد وهذا ما قاد في الترجمة ليكون عربيًا سوريًا متبوعًا بكلمة الفلسطيني ما يثير إيحاءً أنه صفة مسبغة بينما العكس هو الصحيح.


خلال الحديث عن برنامج القدس في السينما العربية في مهرجان الإسكندرية تتصدّر الشاشة مشاهد من فيلم الخيال العلمي "المختارون" الإماراتي التي أخذت الترجمة حرّيتها لتسميته Chosen، وفي الحقيقة أن الفيلم له عنوان أجنبي The Worthy، ويعتبر المنتج إياد الداود "ممنتجًا" من وجهة نظر الفيلم، إضافة لحذف شعار الجزيرة من المقابلة التي أجراها داود في أعقاب وفاة إبراهيم في أحد المشاهد ويظهر الشعار في مشهد آخر.

كذلك يحذف الناقد المصري الأمير فاضل قرابة ثلاثة عقود من عمر السينما الفلسطينية في حديثه أنها قد انطلقت عام 1965، النقطة الأسوأ في الفيلم تأتي بعد حديث ياقوت ديب عن لغة إبراهيم الجميلة، بسبب روح الشاعر التي يمتلكها، في اجتزاء حديث إبراهيم من فيلم "عبدالله حبيب ليس من زماننا" بمونتاج لا يسمح للمشاهد بتمييز الكلام المأخوذ من سياقه، فبعد حديثه عن ترجمة حبيب لكتاب "بريسون سينماتوغرافيا"، تأتي جملة "صعلكة المثقّف" من إبراهيم بإقحام غير مبرّر سوى لإظهار سعة لغته لتترك للمشاهد علامات التعجب.

نصل في شارة النهاية لذكر مؤلفات إبراهيم، والتي هي بحسب الفيلم ثلاثة كتب فقط، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة حتى لو استثنينا ديوانه "موال الجمر.. لو" ومجموعته القصصية "سيف الدخان"، ويتغاضى الفيلم أيضًا عن ذكر كتب الراحل التي ستنشر في القريب عن دار المتوسّط.

هكذا نرى حارس السينما الفلسطينية مبتسمًا وسط هذه المغالطات ووسط اعتبار الفيلم توثيقًا لمسيرته، وليس بإمكاننا الجزم أنه سيكون مستاءً "لو" رأى هذا الفيلم الوثائقي، لأعيد هنا صياغة سؤالٍ طرحه يومًا "كم خطأً يحتاج فيلم قبل أن يلقى في سلة المهملات؟".

● عرض الفيلم في أيّام السينما الفلسطينية في مالمو وبحسب المخرجة سيتم عرضه في ألمانيا وإرساله لمهرجان الإسكندرية السينمائي.

المساهمون