03 ديسمبر 2019
"جسر التنهدات"... آهات المساجين أم العشاق؟
"جسر التنهدات" هو الأشهر بين 400 جسر تربط أوصال مدينة البندقية الإيطالية العائمة. وهو الوحيد المغطى بتصميم هندسي مدهش ومعمار من حجارة جيرية ناصعة البياض، حفزت دولاً كثيرة على نسخ شكله عبر الزمن، لكنه استعصى عليها استنساخ روحه بالتأكيد.
إلا أن صغر حجم "جسر التنهدات" Ponte dei Sospiri لا يتناسب مع شهرته وموقعه في تاريخ المدينة التي كانت مركز الحكم في القرن السادس عشر.
ظننت أنني سأرى جسراً ممتداً بالعرض والطول فوق نهر ريو دي بلازو. لكن اللوم كل اللوم في ذلك على الروائي الفرنسي الشهير ميشال زيفاكو الذي أعطاني هذا الانطباع حين قرأت روايته التي تحمل الاسم نفسه "جسر التنهدات".
وإن كان زيفاكو، للأمانة، لم يأت على ذكر مقاييس الجسر ولا حجم النهر، إلا أن الأحداث الدرامية في روايته، التي تقع فوقه وتحته تترك للقارئ العنان في تخيل الأبطال وكأنهم في مكان رحب يتسع للشخصيات، وليس على جسر هو عبارة عن ممر ضيق وطوله 11 متراً فقط.
يصف الكاتب لحظة اقتياد بطله السجين رولان كاندينو ليلقي نظرة الوداع الأخيرة على مدينته البندقية من نافذة "جسر التنهدات" قبل إعدامه. استعدت الحدث لحظة بلحظة كيف صعد الدرج إلى الجسر يتقدمه الجلاد حاملاً فأسه على كتفه، وعلى يساره كاهن يصلي ومن خلفه مشى 20 جندياً مدججاً بالسلاح. لكنّي في الواقع بعد أن صعدت الدرج ذاته، ووقفت عند النافذة حيث أوقفوه، شعرت بضيق المساحة وصعوبة حشر هذا الجمع من الناس معاً في ذلك الممر الذائع الصيت. سامحك الله يا زيفاكو.
واستكمالاً للتصاعد الدرامي في الرواية، والدور الكبير لنهر ريو دي بلازو فيها، فإن البطل يتمكن (بعد سلسلة مواقف لا مكان لسردها) من القفز في النهر، والغوص في الماء حتى بلغت قدماه القاع. ولم ير الجلاد حين أطل من النافذة غير اضطراب الأمواج وتراقص المراكب فوقها. هذا مبرر آخر جعلني أتخيل النهر أكبر مما هو عليه في الحقيقة.
صحيح أن المبالغة والتضخيم من عناصر التشويق الروائي الناجح، لكني بصراحة شعرت بالامتنان لرواية زيفاكو الرومانسية، لأنها جعلت من الجسر مادة للمقارنة بين الواقع والخيال، ومنحتني متعة الدهشة الأولى في عين المكان.
"جسر التنهدات"... سجون وأقنعة
"جسر التنهدات" الصغير الحجم يقاس بأهميته وتاريخه، إذ أصبح المهندس الإيطالي أنطونيو كونتين الذي صممه، وأشرف على بنائه على الطراز الباروكي بين عامي 1600 و1603، ملهماً لآخرين قلدوه في التاريخ الحديث في أكثر من مكان في العالم.
جسر بقوس مرتفع ومحفور على قوسه السفلي أكثر من 20 وجهًا mascarons ومصدرها الكلمة العربية ماسكارا أو مسخرة والمقصود بها التهريج أو الغرابة. فالوجوه لها ملامح مخيفة وغريبة والقصد منها إخافة الأرواح الشريرة وحماية الجسر، باستثناء وجه واحدٍ يستقبل الناظرين إليه بالابتسام.
بالإمكان رؤية "جسر التنهدات" على يمينك وأنت في طريقك من ساحة كاتدرائية القديس سانت مارك باتجاه الحوض المائي، عندها لا بد من مرورك فوق جسر ديللا باغليا the Ponte della Paglia (جسر القش) وهو أول جسر تصادفه. كما يمكنك أن تراه من الجهة المعاكسة من فوق جسر بونتي ديللا كانونيكاthe Ponte della Canonica الذي شغل الرسامين والمصورين الفوتوغرافيين كغيره من الجسور المشغولة بحركة السائحين التي لا تهدأ.
لكن المعرفة الفعلية لجسر التنهدات لا تكتمل إلا بعبوره من داخل قصر دوج الرائع Doge palace المعروف بالإيطالية Palazzo Ducale، نسبة للحكام الدوقات آنذاك (القادة العسكريين). فالجسر بُني بالأساس ليكون صلة وصل بين ذلك القصر بما يحوي من مركز للقضاء ومحاكم التفتيش وما كان يسمى "مجلس العشرة"، وبين السجن الجديد الذي أنشئ قبل الجسر بنحو 20 عاماً.
ومن السجن الجديد يؤدي الجسر إلى السجن القديم السيئ السمعة الموجود تحت القصر مباشرة، بقسميه الأعلى الذي يعرف باسم Piombi ويسجن فيه عِلية القوم والنبلاء أو من ينتظرون المحاكمة، وكان مغطى بألواح من الرصاص تنقل البرد القارس شتاءً ولهب الحرارة صيفاً. أما السفلي ويسمىPozzi (الآبار) يحشر فيه بقية السجناء وكان عبارة عن 18 خلية مظلمة ومبطنة بالخشب، ومتصلة بممرات معتمة تخنق الهواء، واستمر استخدامه حتى عام 1919.
ويخفي جسر التنهدات سراً في معماره، إذ ينقسم فعليًا إلى ممرين متوازيين لا يرى الزوار العاديون إلا واحداً منهما، في حين أن الآخر هو ممر سري كان معتمداً لنقل السجناء بعيداً عن العيون والآذان.
"جسر التنهدات"... جسر التناقضات
"جسر التنهدات" هو حقاً جسر التناقضات، فحضور بياضه المبهر بعنفوان قوسه العالي وزخرفته الأنيقة المصنوعة من حجارة جزيرة أستيريا الجيرية المقاومة للتآكل، ونافذتيه المغطاتين بزخارف صخرية مشبّكة تطلان على النهر، يخفي غياهب سجون تاريخها أسود، وتعشش في حجارته وجدرانه آهات المساجين وزفرات الموت من شدة التعذيب.
ويعود الفضل بتسميته للشاعر الإنجليزي الشهير اللورد بايرون في القرن التاسع عشر، الذي ذكره في أشعاره. وصفه بأنه جوهر الأضداد، كونه يجمع الجمال والرعب في آن، وهو نقطة العبور من الحياة إلى الموت، من القوة إلى الضعف، من الأبيض إلى الأسود. فهو المكان الأخير الذي يرى منه السجناء المدانون مدينة البندقية الجميلة قبل أن يعدمهم الجلاد.
وصفه الأديب الفرنسي أندريه سواريس بـ"التابوت الحجري المحلق"، لأنه كان رمزاً للموت والآلام والبؤس والعقاب القاسي.
أما المغامر والكاتب الإيطالي الشهير جاكومو كازانوفا، كان من أشهر مساجين قصر الدوج وقبع 15 شهراً في إحدى زنزاناته عام 1756-1757. وروى حكاية هروبه من السجن في كتابه "تاريخ حياتي" عام 1787.
"جسر التنهدات"... رومانسية وأساطير
تغيرت البندقية على مرّ القرون، وما نراه اليوم ليس نسخة طبق الأصل عن التاريخ بالطبع. وكثافة العمران مع مرور الزمن وحركة ملايين السياح في مياهها سنوياً غيّر طبيعتها، وقلل من نقاوة مائها وصفاء قنواتها.
لكن المدينة استطاعت أن تحافظ على طابعها الرومانسي "السياحي"، وكثيرون لا يرون أهم وأجمل من جولات الجندول فيها، ويربطون "جسر التنهدات" بتأوهات الحب والغرام وليس بآهات السجناء.
ولا بد لهؤلاء أن يستمعوا لما تقوله الأسطورة، عن إبحار العشاق بالجندول وتبادل القبل تحت "جسر التنهدات" عند غروب الشمس، بينما تدق أجراس كاتدرائية سان مارك، يحقق لهم السعادة الأبدية. والواضح فعلاً أن تلك الأسطورة حملت للبندقية وأهلها نعمة التسويق السياحي في أجلى صورها.
إلا أن صغر حجم "جسر التنهدات" Ponte dei Sospiri لا يتناسب مع شهرته وموقعه في تاريخ المدينة التي كانت مركز الحكم في القرن السادس عشر.
ظننت أنني سأرى جسراً ممتداً بالعرض والطول فوق نهر ريو دي بلازو. لكن اللوم كل اللوم في ذلك على الروائي الفرنسي الشهير ميشال زيفاكو الذي أعطاني هذا الانطباع حين قرأت روايته التي تحمل الاسم نفسه "جسر التنهدات".
وإن كان زيفاكو، للأمانة، لم يأت على ذكر مقاييس الجسر ولا حجم النهر، إلا أن الأحداث الدرامية في روايته، التي تقع فوقه وتحته تترك للقارئ العنان في تخيل الأبطال وكأنهم في مكان رحب يتسع للشخصيات، وليس على جسر هو عبارة عن ممر ضيق وطوله 11 متراً فقط.
يصف الكاتب لحظة اقتياد بطله السجين رولان كاندينو ليلقي نظرة الوداع الأخيرة على مدينته البندقية من نافذة "جسر التنهدات" قبل إعدامه. استعدت الحدث لحظة بلحظة كيف صعد الدرج إلى الجسر يتقدمه الجلاد حاملاً فأسه على كتفه، وعلى يساره كاهن يصلي ومن خلفه مشى 20 جندياً مدججاً بالسلاح. لكنّي في الواقع بعد أن صعدت الدرج ذاته، ووقفت عند النافذة حيث أوقفوه، شعرت بضيق المساحة وصعوبة حشر هذا الجمع من الناس معاً في ذلك الممر الذائع الصيت. سامحك الله يا زيفاكو.
واستكمالاً للتصاعد الدرامي في الرواية، والدور الكبير لنهر ريو دي بلازو فيها، فإن البطل يتمكن (بعد سلسلة مواقف لا مكان لسردها) من القفز في النهر، والغوص في الماء حتى بلغت قدماه القاع. ولم ير الجلاد حين أطل من النافذة غير اضطراب الأمواج وتراقص المراكب فوقها. هذا مبرر آخر جعلني أتخيل النهر أكبر مما هو عليه في الحقيقة.
صحيح أن المبالغة والتضخيم من عناصر التشويق الروائي الناجح، لكني بصراحة شعرت بالامتنان لرواية زيفاكو الرومانسية، لأنها جعلت من الجسر مادة للمقارنة بين الواقع والخيال، ومنحتني متعة الدهشة الأولى في عين المكان.
"جسر التنهدات"... سجون وأقنعة
"جسر التنهدات" الصغير الحجم يقاس بأهميته وتاريخه، إذ أصبح المهندس الإيطالي أنطونيو كونتين الذي صممه، وأشرف على بنائه على الطراز الباروكي بين عامي 1600 و1603، ملهماً لآخرين قلدوه في التاريخ الحديث في أكثر من مكان في العالم.
جسر بقوس مرتفع ومحفور على قوسه السفلي أكثر من 20 وجهًا mascarons ومصدرها الكلمة العربية ماسكارا أو مسخرة والمقصود بها التهريج أو الغرابة. فالوجوه لها ملامح مخيفة وغريبة والقصد منها إخافة الأرواح الشريرة وحماية الجسر، باستثناء وجه واحدٍ يستقبل الناظرين إليه بالابتسام.
بالإمكان رؤية "جسر التنهدات" على يمينك وأنت في طريقك من ساحة كاتدرائية القديس سانت مارك باتجاه الحوض المائي، عندها لا بد من مرورك فوق جسر ديللا باغليا the Ponte della Paglia (جسر القش) وهو أول جسر تصادفه. كما يمكنك أن تراه من الجهة المعاكسة من فوق جسر بونتي ديللا كانونيكاthe Ponte della Canonica الذي شغل الرسامين والمصورين الفوتوغرافيين كغيره من الجسور المشغولة بحركة السائحين التي لا تهدأ.
لكن المعرفة الفعلية لجسر التنهدات لا تكتمل إلا بعبوره من داخل قصر دوج الرائع Doge palace المعروف بالإيطالية Palazzo Ducale، نسبة للحكام الدوقات آنذاك (القادة العسكريين). فالجسر بُني بالأساس ليكون صلة وصل بين ذلك القصر بما يحوي من مركز للقضاء ومحاكم التفتيش وما كان يسمى "مجلس العشرة"، وبين السجن الجديد الذي أنشئ قبل الجسر بنحو 20 عاماً.
ومن السجن الجديد يؤدي الجسر إلى السجن القديم السيئ السمعة الموجود تحت القصر مباشرة، بقسميه الأعلى الذي يعرف باسم Piombi ويسجن فيه عِلية القوم والنبلاء أو من ينتظرون المحاكمة، وكان مغطى بألواح من الرصاص تنقل البرد القارس شتاءً ولهب الحرارة صيفاً. أما السفلي ويسمىPozzi (الآبار) يحشر فيه بقية السجناء وكان عبارة عن 18 خلية مظلمة ومبطنة بالخشب، ومتصلة بممرات معتمة تخنق الهواء، واستمر استخدامه حتى عام 1919.
ويخفي جسر التنهدات سراً في معماره، إذ ينقسم فعليًا إلى ممرين متوازيين لا يرى الزوار العاديون إلا واحداً منهما، في حين أن الآخر هو ممر سري كان معتمداً لنقل السجناء بعيداً عن العيون والآذان.
"جسر التنهدات"... جسر التناقضات
"جسر التنهدات" هو حقاً جسر التناقضات، فحضور بياضه المبهر بعنفوان قوسه العالي وزخرفته الأنيقة المصنوعة من حجارة جزيرة أستيريا الجيرية المقاومة للتآكل، ونافذتيه المغطاتين بزخارف صخرية مشبّكة تطلان على النهر، يخفي غياهب سجون تاريخها أسود، وتعشش في حجارته وجدرانه آهات المساجين وزفرات الموت من شدة التعذيب.
ويعود الفضل بتسميته للشاعر الإنجليزي الشهير اللورد بايرون في القرن التاسع عشر، الذي ذكره في أشعاره. وصفه بأنه جوهر الأضداد، كونه يجمع الجمال والرعب في آن، وهو نقطة العبور من الحياة إلى الموت، من القوة إلى الضعف، من الأبيض إلى الأسود. فهو المكان الأخير الذي يرى منه السجناء المدانون مدينة البندقية الجميلة قبل أن يعدمهم الجلاد.
وصفه الأديب الفرنسي أندريه سواريس بـ"التابوت الحجري المحلق"، لأنه كان رمزاً للموت والآلام والبؤس والعقاب القاسي.
أما المغامر والكاتب الإيطالي الشهير جاكومو كازانوفا، كان من أشهر مساجين قصر الدوج وقبع 15 شهراً في إحدى زنزاناته عام 1756-1757. وروى حكاية هروبه من السجن في كتابه "تاريخ حياتي" عام 1787.
"جسر التنهدات"... رومانسية وأساطير
تغيرت البندقية على مرّ القرون، وما نراه اليوم ليس نسخة طبق الأصل عن التاريخ بالطبع. وكثافة العمران مع مرور الزمن وحركة ملايين السياح في مياهها سنوياً غيّر طبيعتها، وقلل من نقاوة مائها وصفاء قنواتها.
لكن المدينة استطاعت أن تحافظ على طابعها الرومانسي "السياحي"، وكثيرون لا يرون أهم وأجمل من جولات الجندول فيها، ويربطون "جسر التنهدات" بتأوهات الحب والغرام وليس بآهات السجناء.
ولا بد لهؤلاء أن يستمعوا لما تقوله الأسطورة، عن إبحار العشاق بالجندول وتبادل القبل تحت "جسر التنهدات" عند غروب الشمس، بينما تدق أجراس كاتدرائية سان مارك، يحقق لهم السعادة الأبدية. والواضح فعلاً أن تلك الأسطورة حملت للبندقية وأهلها نعمة التسويق السياحي في أجلى صورها.