يُكثِّف السينمائي التشيلي بابلو لارّن (Pablo Larraín)، في فيلمه الجديد "جاكي" (2016)، لحظات إنسانية عديدة، في تشكيلٍ درامي جماليّ لسيرة امرأة، تجد نفسها في لحظة تحوّل تاريخي مصيري لبلدٍ برمّته، قبيل وقتٍ قصير للغاية على بداية سقوطها في جحيم أسئلةٍ تتصارع في روحها، جرّاء لحظة التحوّل تلك. تكثيفٌ يتعمَّق في عوالم امرأة تريد أجوبةً تصنع راحةً داخلية لها (أو توهمها براحةٍ كهذه، على الأقلّ)، وتُقدِّم ـ في آن واحدٍ ـ أجوبةً تحصِّن الإرث السياسي لزوجها. وبين هذين النوعين من الأجوبة، تبدو المرأة كمن يغتسل ليُشْفَى، إما باستعادةِ مرحلة، أو بعيشِ مرحلة، أو بسرد حكاية مرحلة.
فالاستعادة متمثّلةٌ بحوارٍ تلفزيوني (بالأسود والأبيض) يُجرى مع السيدة الأميركية الأولى جاكلين كينيدي (1929 ـ 1994)، بُعيد دخولها البيت الأبيض (20 يناير/ كانون الثاني 1961) رفقة زوجها الوسيم جون فيتزجيرالد كينيدي (1917 ـ 1963). وعيشُ مرحلةٍ ينكشف في لحظة اغتيال الرئيس (22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1963)، وما تلاها من بحثٍ عميق عن أجوبة "تصنع راحةً لها" من ثقل التمزّق والارتباك والقلق، الحاصلة كلّها للتوّ. وسرد حكاية مرحلة يظهر في حوارٍ صحافي، يُجريه معها ثيودور هـ. وايت لحساب مجلة "لايف"، بعد أسبوعٍ على الاغتيال، تحرص فيه السيدة على تحصين الإرث السياسي لزوجها، عبر أجوبةٍ دقيقة وصارمة وواضحة.
بين العالمين المتناقضين لأجوبةٍ تنتمي إلى حالتين مختلفتين تماماً، تُقدِّم الممثلة الأميركية ناتالي بورتمان واحداً من أجمل أدوارها السينمائية. تُقدِّم شخصيةً حاضرةً، بقوّة، في المشهد الدولي العام، في لحظة محدّدة، تنفتح على لحظات قليلة أخرى. فـ "جاكي" يتوغّل في ذات المرأة وروحها، بكونها سيّدة أولى موضوعة أمام اختبار إنساني ـ أخلاقيّ قاسٍ، ينعكس في اغتيالٍ لن يبقى محصوراً بالرئيس، كأنها هي أيضاً تتعرّض لاغتيالٍ، يضعها ـ كامرأة ـ أمام مرآة ذاتها وروحها المنكسرتين والمتألمتين والباحثتين عن معانٍ لعناوين معلّقة، عن الإيمان والحبّ والتضحية والسلام الداخلي، وعن الزواج والبلد والرئاسة والعلاقات، وعن المخفيّ والمكشوف. عناوين لن تنجلي مضامينها كفاية، ولن ترتاح لها سيّدةٌ، توافق على حوار صحافيّ تريده كشفاً لحقائق مرتبطة بزوجها.
في هذا كلّه، ينسج التشيليّ بابلو لارَّن فيلمه بتداخل بين 3 أزمنة، يصنع توليفها الجماليّ البديع (سيباستيان سيبولفيدا) صورتها الأخيرة في سياق متماسكٍ، كتابة (نواه أوبنهايم) وتصويراً (ستفان فونتين) وموسيقى (ميكا ليفي). لكن الرابط الأساسي بين الأزمنة تلك والسياق المتماسك بجوانبه الفنية والدرامية، يكمن في أداء بورتمان، التي تقترب من الطبيعة الحقيقية لشخصية جاكلين كينيدي، من دون أن تقع في التقليد أو النسخ؛ والتي تبتعد عنها ـ في الوقت نفسه ـ من دون أن تخرج منها كلّياً. كأنها، بهذا التلاعب التمثيلي، تؤكّد مجدّداً قدرتها على أن تكون ممثلة تمنح الشخصية السينمائية بُعدها الإنساني الحقيقي، جاعلةً من أدائها مدخلاً وحيداً للتوغّل في أعماق الشخصية، وسلوكها ونبرتها وحكاياتها وانفعالاتها.