"توماس كوك": المحطّة الأخيرة لقطارٍ وُجهَته العالم

23 سبتمبر 2019
مسافرون مع الشركة في رحلة مصرية مع مرشدين محليين(SSPL/Getty)
+ الخط -
في عام 1841، كان المبشّر المعمدانيّ توماس كوك قد بات على قناعةٍ راسخةٍ بأن علّة المجتمع البريطاني الأصلية هي إدمان شرب الكحول. وكأي مسيحي مؤمن بضرورة الارتقاء بقيم المجتمع، قرّر تنظيم رحلة بالقطار، من مدينته ليستر (شرق وسط إنكلترا) إلى مدينة لوفبورو البعيدة حوالي 20 كيلومتراً، لـ500 شخص لحضور اجتماع يشجّع على وقف استهلاك الكحول.

كانت تلك الرحلة، هي الخطوة الأولى في بناء إمبراطورية "توماس كوك وابنه" للسياحة. لكن ملامح هذه الإمبراطورية، التي جعلت من توماس كوك، الأب المؤسس للسياحة الحديثة في العالم، لم تتشكّل إلا بعد أربع سنوات، عندما نظّم كوك رحلاته السياحية الأولى بهدف الكسب المادي. رحلات بالقطار من مدن ليستر، ونوتنغهام، وديربي إلى ليفربول.

الإقبال الكبير على هذه السفريات الداخلية، جعل كوك يوسّع الدائرة، إلى اسكتلندا، حيث نظّم الرحلة الأولى عام 1846، لـ350 مواطناً إنكليزياً إلى غلاسكو. لكن هذه المرّة بدا التنظيم أكثر احترافية: وزّع كوك كتيبات إرشادات للمسافرين، حول الأماكن التي يمكن زيارتها، والمخاطر التي قد تواجه النساء في بعض المناطق، وغيرها من النصائح التي جعلت من السفر مع توماس كوك، متعة أكثر راحة وسهولة.

نجاح "بيزنس" السياحة دفع كوك إلى مغامرة أكبر. ومن الرحلات داخل المملكة المتحدة إلى تلك المتوجهة إلى فرنسا وبلجيكا وألمانيا. باتت ثروة توماس كوك تتراكم، وباتت مكاتبه تتوسع. فبعد مكتب أول في ليستر افتتح مع ابنه جون ميسون كوك في عام 1865 أول مكتب سفريات في لندن.

في ستينيات القرن التاسع عشر كانت شركة "توماس كوك وابنه" الشركة الوحيدة التي تنظم رحلات سياحية في أوروبا، مع تقديمات تشبه، وإن بشكل بدائي، العروض التي تتفنّن في تنظيمها شركات السفر حالياً حول العالم. وفي النصف الثاني من الستينيات، توسّع العمل ليختار جون ميسون كوك وجهة جديدة لزبائنه وهي الولايات المتحدة، جاعلاً منها مقصداً سياحياً بالنسبة للبريطانيين، بعدما بقيت لسنوات وجهةً للعمل فقط.


كان كوك الابن يدرك أن القطاع السياحي يدرّ ثروة، فقام بحملات إعلانية مغرية في كل بريطانيا، واعداً الناس بزيارة جنات الأرض. أبرز هذه الجنات كانت مصر وفلسطين. تلك البلاد البعيدة التي يرتبط اسمها بالكثير من الإثارة والتاريخ في أذهان الأوروبيين. لتصل أول رحلة للشركة إلى العالم العربي عام 1869. في تلك الفترة كانت السياحة مفهوماً غربياً فقط، نتيجة مباشرة للثورة الصناعية، وارتفاع دخل الفرد. وبينما كانت قوى الاستعمار تنتشر في أماكن كثيرة حول العالم، كانت السياحة البيضاء تنتشر معها. فإلى جانب الجنود البريطانيين، وإلى جانب الإرساليات الغربية التي اجتاحت العالم العربي، والهند، وأفريقيا، كان هناك السيّاح، الذين بدأوا يغزون تلك الدول. على سبيل المثال سفن السيّاح المملوكة لشركة توماس كوك وصلت جنباً إلى جنب مع القوات البريطانية إلى مصر والسودان في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وفق ما تشير دراسة "السياحة والإمبراطورية" (2004) للباحث روبرت هانتر.


عرفت الشركة (اعتمدت اسم "توماس كوك وابنه" رسمياً سنة 1871) كيف تبيع وجهاتها السياحة، وكيف تعد الناس بالفرح والثقافة والراحة والاستجمام في رحلة واحدة. توسّع العمل، وبات البريطانيون بشكل أساسي، يوفرون مداخيلهم طيلة السنة للسفر مع توماس كوك. حوّلت تلك الشركة السفر إلى منتج يُباع بالسعر المناسب. وزّعت ملصقات إعلانية لوجهاتها، مستخدمة عبارات أدبية مثيرة: "السفر غذاء الروح... السفر هو أن تستسلم لخطة الطبيعة". ومن لا يريد أن يستسلم لخطة الطبيعة بعد عام شاق من العمل؟

كل ما سيحصل بعد ذلك، متوقع بشكل أو بآخر، وفاة توماس كوك سنة 1892، استلام ابنه الشركة، وتوسيع نطاق عملها، نحو عوالم مجهولة للبريطانيين والأوروبيين، من أبناء الطبقة الوسطى. فكان يقدم لهم رحلات كاملة بكلفة مقدور عليها. ابتكرت الشركة تدريجياً مفهوم الإجازة الصيفية خارج البلاد. هذا المفهوم الذي بات ثقافة إلزامية عند أغلب الشعوب الأوروبية حالياً، حيث تخلو المدن في شهرَي الصيف أي يوليو/تموز وأغسطس/آب من سكانها المسافرين نحو وجهات مختلفة.



عام 1899 ومع وفاة كوك الابن، واستلام أولاده الثلاثة فرانك، وإرنست، وتوماس، العمل توسعت الوجهات بشكل إضافي. جعل هؤلاء من أفريقيا وجهةً للسياحة والمتعة، لا وجهة لاستقدام العبيد، والبحث عن الذهب فقط. فنظموا في عام 1922 رحلات، استمر بعضها لخمسة أشهر وجالت في مختلف أنحاء القارة.

نجحت الشركة خلال أقل من مئة عام في تحويل كل دول العالم إلى وجهات سياحية ممكنة للبريطانيين. ومع بدء استخدام الطائرات السياحية، نظمت الشركة رحلة جوية للمرة الأولى عام 1927. توسيع العمل بشكل هستيري، راكم الديون، فباع الأحفاد الشركة، إلى الشركة البلجيكية المشغلة لقطارات "أوريينت إكسبرس". لكنّ الحرب العالمية الثانية حلّت، وجرى تأميم الشركة من قبل السلطات البريطانية.

الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، يمكن أن تؤرّخ لبداية نهاية "توماس كوك وابنه" وإن ببطء شديد. فمع انتهاء الحرب، وبدء إعادة الإعمار، بات تدريجياً السفر مع الوكالات السياحية أمراً شائعاً، ولم تعد تلك الشركة رائدة ووحيدة في هذا المجال. فكان وفق صحيفة "ذا غارديان" أكثر من مليون بريطاني يسافرون إلى الخارج كل عام، مع عشرات الشركات التي بدأت تنتشر.


أمام هذا الواقع تمّ خصخصة الشركة عام 1972، ودخلت مجدداً إلى ساحة المنافسة، مع رزم رخيصة للسفر. لكن لم تعد الأرباح كما كانت، والتوسع الكبير في العمل من خلال شراء فنادق وطائرات، جعل الديون تتراكم بشكل مستمرّ، لتعلن الشركة إفلاسها يوم أول من أمس الأحد، معلنةً النهاية الحزينة للشركة التي جعلت كل شخص، سائحاً محتملاً، وكل مدينة وجهة محتملة.
المساهمون